مُختصر موضوع حقيقة رمضان والصيام في القرءان الكريم
مُختصر موضوع حقيقة رمضان والصيام في القرءان الكريم
1. لماذا نصوم ولمن نصوم؟
يقولون بأن الصيام هو الإمساك عن الأكل والشرب لمدة 30 يومًا في شهر رمضان من كل سنة، وأنَّ صيامنا هذا هو لله وأنَّه تعالى يجزينا به الحسنة بعشر أمثالها. وأننا نصوم لكي نشعر مع الفقراء والمساكين. كيف يكون الصيام لله؟ وماذا يستفيد الله من امتناعنا عن الأكل والشرب من أجلِهِ؟ وبماذا يُفيدنا امتناعنا عن الأكل والشرب؟ وهل صيامنا عن الأكل والشرب فيه إصلاح لنا فيُعطينا الحسنات في الآخرة؟ وهل صحيح أنَّ صيامنا هذا يجعلنا نشعر مع الفقراء والمساكين؟
إنَّ جميع ما يأمرنا الله عز وجل به في القرءان الكريم هو من أجلنا وليس من أجلِهِ، وفيه مصلحة أولى وأخيرة لنا، فالله سٌبحانه وتعالى ليس بحاجة إلينا لأنه سُبحانه "هو الغني"، ولكننا نحن الّذين نحتاجه دومًا وأبدًا، لأننا نحنُ الفقراء إليهِ.
إذا نظرنا في أسعار السوق المحلية من موادٍّ غِذائِيَّة وغيرها، نجد ويا للعجب والصُّدفة بِأن أسعار السِّلع الغذائِيَّة وغيرها من السِّلَع التجارية ترتفع إرتفاعًا ملحوظًا (ضعف الأسعار أو أكثر) في شهر رمضان الَّذي من المفترض أن يكون شهر بَركَة وكَرَم ورحمة، وليس شهر إسْتِغْلال وغشّْ ونقمة. فكيف يستطيع الفقير والمحتاج الصائم أن يشتري ولو لقمة واحدة صغيرة يفطر بها لكي يسد جوعه، الّذي سببه الأول هو الفقر والحاجة، وسببه الثاني هو فرض الصيام عليه (امتناعه عن الأكل والشرب) الّذي واجب عليه أن يؤديه كل سنة ولمدة 30 يومًا مِثله مثل باقي الناس؟ يقولون كذبًا بِأنَّ الحَجّْ "عبادة وتجارة"، فهل أصبح رمضان هو أيضًا "عبادة وتجارة"؟
2. هل الصيام صحّي؟ وماذا يقول علم الطب والصحة في هذه المسألة؟
لقد أخبرنا أكثر الأطباء العرب كذبًا بأنَّ الصيام عن الأكل والشرب فيه إفادة كبيرة لنا ولصحتنا، وأنَّ جميع الأطباء وعلماء البيولوجيا والصحة اعترفوا بهذا. ولقد جاءوا بقولهم هذا لكي يتوافق مع الحديث الكاذب الّذي يقول: ((صوموا تصحوا...)). وأنا أقول لهم علميًّا بأنَّ ما يقولونه هو أكبر كذب وافتراء على علم الله عز وجل وعلينا. وإنَّ قولهم هذا يسحب منهم الثقة وبالتالي رخصتهم كأطباء، ويجعلهم في نظر العلم القديم والحديث أطباء جُهلآء لا أطباء علماء، ويُصبحوا بالتالي أطباء بالإسم فقط وتسقط عنهم مصداقيتهم وتتبرّأ منهم شهاداتهم.
لقد خلق الله عز وجل جسد الإنسان وأعطاه حاجته من المأكل والمشرب عن علم. فالإنسان (بدنًا ونفسًا) يحتاج كل يوم إلى كمية معينة من الطاقة يأخذها من الطعام والشراب لكي يستطيع أن يعيش بصحة جيدة. وهذه الكمية من الطاقة توَصَّلَ إليها العلماء والأطباء بوحي من الله العليم الحكيم. وهذه الطاقة محددة، وعلى الإنسان أن يأكل ثلاث وجبات أساسية وأن يأكل بين كل وجبة من تلك الوجبات وجبة صغيرة، فيصبح مجموع الوجبات الّتي يحتاجها الإنسان 3 وجبات أساسية و2 (وجبتان) صغيرتان، أي 5 وجبات في اليوم الواحد. وتلك الوجبات الخمس تحتوي على كمية من الطاقة تتلآئم مع حاجة الإنسان إليها، رجلاً كان هذا الإنسان أم إمرأةً أم طفلاً.
سوف أعطيكم مثالاً على كمية الطاقة الّتي يحتاجها الرجل وتحتاجها المرأة من المأكل والمشرب في اليوم الواحد:
المرأة: تقريبًا 2000 كيلو كالوري في اليوم الواحد، تُوزَّع خمس مرات على مدار اليوم.
(approx. 2000 kcal/day; kilocalories/day).
الرجل: تقريبًا 2500 كيلو كالوري في اليوم الواحد، تُوزَّع خمس مرات على مدار اليوم.
(approx. 2500 kcal/day; kilocalories/day).
الرجل والمرأة: 2 ليتر من الماء أو السوائِل على مدار اليوم.
(2 L/day; Liter/day).
هذه الطاقة لا تُفيد بدننا بالشكل الصحيح إذا تناولناها دُفعةً واحدة في وجبة واحدة. إذا تناول الإنسان جميع هذه الكمية من الطاقة في دفعة واحدة، أي في وجبة واحدة أو وجبتان، فسوف يأخذ ويستخدم البدن قسمًا وجزءًا صغيرًا فقط مِمّا يحتاجه من هذه الطاقة في الوجبة الواحدة أو في الوجبتين، والمتبقي منها الّتي لم تُستخدم يتم تخزينها على شكل دهون، وهذا يُسبب ضررًا على صحة الإنسان مُمكن أن يؤدي به على المدى الطويل إلى أمراض مختلفة كأمراض القلب والضغط والسكري والكوليستيرول وغيرها. أمّا إذا تناول الإنسان بعض أو جزء من كمية الطاقة الّتي نجدها في الوجبة الواحدة أو في الوجبتين، فسوف ينقصه حاجته من الطاقة المتبقية الموجودة في الوجبات الثلاث أو الأربع الأخرى، وبالتالي سوف يؤدي به إلى نقص في الغذاء والطاقة، وبالتالي إلى انخفاض في كمية الدهون والبروتينات والسكريات والفيتامينات والأملاح والمعادن. هذا سوف يؤدي إلى انخفاض وهبوط في الوزن. وهذا الهبوط في الوزن سوف يُسبب ضررًا على صحة الإنسان ممكن أن يؤدي به إلى أمراض مختلفة كانخفاض في الضغط وفقر في الدم وهبوط في السكر وأوجاع الرأس والغثيان ونقص في التركيز ونقص في المناعة وغيرها. في بعض الأحيان رُبَّما يكون انخفاض الوزن جيدًا للإنسان، لكن هذا يكون بصفة مؤقتة وفقط للإنسان الّذي لديه زيادة في الوزن لا بصفة دائمة متكررة من دون توقف على مدار 30 يومًا. أمّا بالنسبة للإنسان المعتدل في الوزن أو الإنسان الضعيف الوزن (كالفقير مثلاً) فهذا لن يكون جيدًا لصحته على الإطلاق، لأنه سوف يؤدي به حتمًا إلى مشاكل صحية هو بغنى عنها.
لذلك ولكي تكون صحتنا جيدة فعلينا أن نُوزع هذه الطاقة الّتي نحتاجها من الغذآء والماء على مدار اليوم من أجل تجنب تخزين الدهون أو نقصان الطاقة، وبالتالي الوقاية من الأمراض. ولقد أجمع علماء الطب والصحة على أنَّ الأكل المتأخر من الّيْل فيه ضررٌ كبير يُمكن أن يُشكل خطرًا على صحة الإنسان.
والسؤال الّذي يطرح نفسه هو: هل الأطباء وعلماء الصحة لديهم العلم والحكمة ولذلك فهم يعلمون أكثر من الله العليم الحكيم عن كمية الطاقة الّتي يحتاجها الإنسان من الأكل والشرب في كل يوم وعن طريقة ووقت تناولها لكي يستطيع الإنسان أن يعيش بصحة جيدة؟ ومن أين جاء هؤلآء الأطباء العرب ((المسلمين)) بعلمهم هذا الّذي ابتدعوه لكي يُثبتوا صحة ومصداقية هذا الحديث الكاذب الّذي يقول: ((صوموا تصحوا...))؟ هل تشاوروا بعلمهم هذا الّذي توصلوا إليه مع الأطباء الآخرين العالميين؟ وهل أُثبِتَ عِلمهم هذا علميًّا فكُتِبَ في كُتُب ومجلآت ومقالات الطب والبيولوجيا والصحة، ودُرِّسَ في جامعات الطب والبيولوجيا والصحة العالمية، واستخدم وانتشر في البلدان الغير إسلآمية كطريقة علمية بحتة من أجل الحفاظ على صحة الإنسان؟ ولماذا طريقة هذا النوع من الصيام يُخالف علم الطب والصحة العالمية؟
3. ما هي الأمراض النفسية والبدنية الّتي يُسببها الصيام؟
إذا كان هذا الحديث صحيحًا وإذا كان صيامنا عن الطعام والشراب لمدة 30 يومًا فيه صحة ومنفعة كبيرة لنا، فلماذا أكثر الناس الّذين يصومون يكون صيامهم صعب و"لا طاقة لهم بِهِ"؟ لِماذا نشعر بالسعادة النفسية بِانتِهائِهِ؟ لِماذا نستخدم النوم وقت صِيامنا كوسيلة للمراوغة النفسية ولِمرور الوقت؟ لماذا تصيبنا "أمراض بدنية" كالتعب والإرهاق فلا نحب أن نذهب إلى العمل وقت صيامنا وخاصَّةً في البلدان الحارّة؟ لماذا تصيبنا "أمراض بدنية" كأوجاع الرأس والغثيان وهبوط في الضغط وأمراض أخرى مختلفة كثيرة؟ لِماذا تصيبنا "أمراض نفسية" فنشعر بالكره والبغضاء والغضب، ولا نشعر بالسعادة إلاَّ وقت الإفطار؟
إذا نظرنا بواقعيَّة إلى ما نحن عليه في شهر رمضان، نجد أنّ تعاملنا مع بعضنا البعض هو أسوأ ما يكون عليه تحديدًا في هذا الشهر. فنحن خلال شهر رمضان نُصاب بحالات وأمراض نفسية كبيرة كالكآبة والغضب والحزن وتشتيت العقل والفكر وعدم القدرة على التركيز أو العمل وغيرها مِما شابه ذلك. هذه الأمراض تؤدي بنا إلى أن نذمّ ونسبّ ونلعن بعضنا ونكْرَه ولا نطيق بعضنا ونغضب من بعضنا. وكل هذه الحالات والأمراض النفسية الّتي ذكرتها لكم تحدث مِرارًا وتكرارًا في كُلَّ سنة يَأْتي فيها رمضان، فيحدث ذلك بين الأهل والأولاد، وبين الرجل وامرأته، وبين أفراد العائلة، وبين الجيران، وبين الأصحاب، وفي أماكن العمل خاصَّةً، وبين الناس عامَّةً، فلا نستطيع أن نشعر لا بأنفسنا ولا بغيرنا، فكيف إذًا سوف نشعر مع الفقراء والمساكين؟
ونحن ننتظر في شهر رمضان وبفارغ الصَّبْر وقت الإفطار، وعندما يأتي نُشفى ((من أمراضنا النفسية والبدنية)) مؤقتًا فنكون في أوجّْ سعادتنا. كذلك نَحسب ونَعُدُّ أيام الصيام ونتمنى أن تنتهي بِأسرع وقت ممكن فنُشفى ((من هذا المرض النفسي والبدني)) ونكون بذلك في قمة سعادتنا، لدرجة أننا نحتفل بعد إنتهاءه مباشرةً ونُعيِّدْ ثلاثة أيام ونسمي هذا العيد بعيد الفِطر (أي الإفطار) فرحًا وسرورًا بانتهاء صيامنا ((مرضنا النفسي والبدني)) وبإفطارنا.
4. هل صحيح أنَّ هدف الصيام هو الشعور مع الفقراء والمساكين؟
هل الشعور مع الفقراء والمساكين يكون بمنع أنفسنا عن الأكل والشرب لعدة ساعات في اليوم لمدة 30 يومًا ونحن نعلم مُسبَقًا أننا سوف نأكل كل يوم في آخر النهار وقت غروب الشمس، أم أنَّهُ يكون بمساعدة وفدآء هؤلاء الفقراء والمساكين بإطعامهم؟ وهل يكون الشعور مع الفقراء والمساكين بأن نأكل في كل وجبة أصناف كثيرة وعديدة ومتنوعة من الطعام وغيرنا يتضوَّر جوعًا، أم أنَّه يكون بإطعام هؤلاء الفقراء والمساكين؟
5. هل من المنطق والعدل أن يختلف وقت الصيام من بلد إلى بلد آخر؟
لماذا كُلُّ مسلم يعيش في بلد مختلف عن غيره عليه أن يصوم ساعات مختلفة عن غيره من المسلمين (أكثر أو أقَّل)، وهل هذا عَدل من الله؟ وماذا لو كان المسلم يعيش ويُقيم مثلاً في القطب الشمالي وصادف قدوم رمضان في الصيف، فهل يستطيع أن يبقى بلا طعام وشراب لمدّة 20 ساعة بينما غيره يصومون 10 ساعات لأنهم يعيشون مثلاً في القطب الجنوبي؟ وماذا عن المُسلِم الّذي يعيش في بلاد أقصى الشمال وفيها النهار متواصِل لمدة 6 أشهر والّيل متواصل لمدة 6 أشهر، فمتى سيصوم هذا المُسلِم، وكم ساعة من النهار سيصوم؟
6. ما معنى رمضان، ولماذا أنزل الله عز وجل القرءان في شهر رمضان؟
شهر رمضان هو شهر الصيف عند العَرَب، وسُمِّيَ بذلكَ لشِدَّة حرارة الشمس فيه. وهو الشهر أو الوقت الّذي فيهِ أَنزَلَ الله عز وجل القرءان على رسولِهِ الأمين محمد عليه السلام. ولقد كان هذا النُزول في وقت الصيف الحّار عبرة من الله عز وجل للنبي محمد عليه السلام لِكي يُخرِجُهُ من الظلُمات (أي من عذاب نار جهنم) إلى النور (أي إلى الجنة)، وكان عبرةً أيضًا لقومه ولكل إنسان أراد الله تعالى أن يُخرِجَهُ من عذاب نار جهنم إلى الجنة.
إذا كان علينا أن نصوم شهر رمضان الّذي هو شهر الحر عند العرب (شهر الصيف)، فلماذا نصوم إذًا في أشهر وأوقات مختلفة عن بعضها (كأشهر الربيع والخريف والشتاء) وليس فقط في هذا الشهر من الصيف؟ وكيف يُمكن أن يأتي شهر رمضان (بالمفهوم الشائع) في الشتاء أو في الخريف أو في الربيع مثلاً؟ أي كيف يمكن أن يتغير شهر رمضان الّذي هو شهر الحر في كل سنة؟ فهل يمكن أن يأتي شهر رمضان في الشتاء وهو في الأصل شهر من المعروف عنه أنه شهر الحر وأنه لا يأتي إلا في الصيف؟ فكيف يمكن أن يصبح شهر من أشهر الصيف كشهر من أشهر الشتاء أو الخريف أو الربيع؟ وهل يتغير شهر حزيران أو تموز أو آب كل سنة فيأتي مثلاً شهر آب في وقت آخر، في وقت الشتاء مثلاً بدلاً عن شهر كانون الثاني؟ وإذا كان شهر الصيف رمضان ليس ثابتًا ويتغير وقته ويأتي في وقت أو شهر مختلف في كل سنة، فهذا لا يدلنا إلاَّ على وجود خطئ فادح وعدم ثقة في التقويم الشهري عند العرب، لأنَّه عندما يخبرنا الله عز وجل أنه قد أنزل القرءان في شهر رمضان فهذا يعني أنَّ القرءان قد أُنزِلَ في شهر مُعيَّن ثابت لا يتغير، وأنَّ له وقت معيَّن حدده الله عز وجل بشهر الصيف لا بشهر الشتاء أو الخريف أو الربيع. وهل كان شهر رمضان الّذي هو شهر الصيف عند العرب هو أيضًا شهر الشتاء عند العرب أو شهر الخريف أو الربيع عندهم؟
7. ما تعريف الصيام في القرءان الكريم؟
سُوۡرَةُ البَقَرَة
يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيۡڪُمُ ٱلصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِڪُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ (١٨٣) أَيَّامًا مَّعۡدُودَاتٍۚ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوۡ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنۡ أَيَّامٍ أُخَرَۚ وَعَلَى ٱلَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدۡيَةٌ طَعَامُ مِسۡكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيۡرًا فَهُوَ خَيۡرٌ لَّهُ ۥۚ وَأَن تَصُومُواْ خَيۡرٌ لَّڪُمۡۖ إِن كُنتُمۡ تَعۡلَمُونَ (١٨٤).
لقد كتب الله تعالى علينا الصيام في القرءان تمامًا كما كتبه على الّذين من قبلنا في التوراة والإنجيل وصحف إبراهيم ورِسالات نوح وفي جميع الكتب السماوية السابقة الّتي أنزلها الله تعالى سابقًا وحفظها لاحقًا في القرءان، لقوله تعالى في آية (183) من سورة البقرة: "يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيۡڪُمُ ٱلصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِڪُمۡ". وهذا أكبر دليل على أن طريقة الصيام وشريعة الله ودينه وقانونه واحِدٌ لِجميع الأمم، فكما كتبَهُ تعالى (أي فَرَضَهُ ووضع قانونه) علينا في القرءان، كَتَبَهُ (أي فرضَهُ ووضع قانونه) أيضًا على جميع الأمم السابقة في الكِتاب الّذي أنزلَهُ عليهم، ولذلك أكمل الله تعالى هذه الآية بِقولِهِ "لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ"، لأنَّ الهدف من الصِيام الّذي فرضهُ الله تعالى علينا هو أن نتَّقي الله فنُطيعه ونسجد له بما يأمُرُنا بِهِ في كِتابِهِ العزيز. وإذا كان الهدف من الصيام هو الإمساك عن الأكل والشرب كما علمونا، فكيف نكون نتقي الله وأين هي التقوى في صيامنا المزعوم هذا؟
لقد عرف الله عز وجل لنا الصيام أنه فعل الخير والإحسان، فهو فديةٌ طعام مسكين لقوله تعالى في آية (184) من سورة البقرة: "فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوۡ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنۡ أَيَّامٍ أُخَرَۚ وَعَلَى ٱلَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدۡيَةٌ طَعَامُ مِسۡكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيۡرًا فَهُوَ خَيۡرٌ لَّهُ ۥۚ وَأَن تَصُومُواْ خَيۡرٌ لَّڪُمۡۖ إِن كُنتُمۡ تَعۡلَمُونَ". إذًا فالّذي يطيق الصيام أي يقدر عليه هو الّذي يفدي بإطعام مسكين، وليس العكس كما يفعل أكثر المسلمين. فالمسكين والفقير والمحتاج لا يُطيق (أي لا يقدر) أن يساعد مسكينًا آخر ولا أن يفدي بإطعامه. ومن كان مريضًا أو على سفر فعليه أن يصوم في أيام أُخر، لِأنَّه لا يستطيع إقامة الصيام بسبب مرضه أو سفره. وإذا كان الصيام هو صيامٌ عن الأكل والشرب لكي نشعر مع الفقراء والمساكين والمحتاجين، فلماذا على الفقير أو المسكين أو المحتاج أن يصوم هو أيضًا؟
إنَّ قول الله عز وجل "وَعَلَى ٱلَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدۡيَةٌ طَعَامُ مِسۡكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيۡرًا فَهُوَ خَيۡرٌ لَّهُ ۥۚ وَأَن تَصُومُواْ خَيۡرٌ لَّڪُمۡۖ إِن كُنتُمۡ تَعۡلَمُونَ" يدلنا على أنَّ "الّذينَ يُطيقونَهُ" أي يَقْدِرونَ عليهِ أي يَستَطيعون إقامة الصِّيام هُم الّذين علَيهِم أن يَعطوا فِدْيَة طعام مسكين، أي أن يتطوَّعوا فيفدوا بإطعام مسكين، أي أن يُطعِموا مِسكينًا، وإذا أراد الإنسان أن يتطوَّع خيرًا أي أن يفدي فيُطعِم مسكينًا يكون ذلك خيرًا لَهُ عند رَبِّهِ وأعظم أجرًا، ولذلك أكمل الله تعالى تلك الآية بِقَولِهِ "وأن تصوموا خيرٌ لكُم إن كُنتُم تعلَمون" لأنَّ إطعامَنا لِلمِسكين هو خَيرٌ لنا لِأنَّهُ عمل تطوُّعي من الإنسان للخَير والإحسان وفيهِ إصلاح، فيكونُ سببًا لِطهارة أنفُسنا فَيُكْتَبْ لنا بِهِ عَمَلاً صالِحًا.
إذًا نستطيع أن نعرِّف الصيام أنه ليس الإمساك عن الأكل والشرب ولكنه "فديةٌ طعام مسكين". مع الملاحظة الهامة أنَّ فِعل طاق في اللُّغة العربية يعني قَدِرَ، والطاقة تأتي من القدرة، وطاق الشَّيء يعني قَدِرَ عليهِ، وطاق الصِّيام يعني قَدِرَ عليهِ، والقدرة هي الإستطاعة على فعل أمر ما. ولكن للأسف، لقد حرَّف الأئِمَّة وعلماء الدين في كتب أحاديثهم وشريعتهم وتفاسيرهم الكاذبة فاستبدلوا كلمة "يُطيقونَهُ" بكلمة "لا يُطيقونَهُ"، ولِذلك جرت العادة المُتَّبعة عند أكثر الناس على أنَّ الّذي لا يُطيق الصِّيام كالمريض والّذي على سفر عليه أن يفدي بإطعام مِسكين بَدَلاً عن صِيامِهِ. لقد حرّفوا هذه الآية وقالوا في تفاسيرهم الباطلة "أنَّ الّذين يُطيقونه" هُم "الّذين لا يُطيقونه"، ولكنَّ الله عز وجل قال لنا وبكل وضوح: "وَعَلَى ٱلَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدۡيَةٌ طَعَامُ مِسۡكِينٍ"، إذًا فالّذي "يُطيق الصيام" أي يقدر عليه هو الّذي عليه أن يفدي بإطعام مسكين.
8. الصيام له معنىً ظاهرًا ومعنىً باطنًا:
إنَّ مفهوم الصِيام في القرءان الكريم هو الامتناع عن فعل السَّيِّئات والمعاصي من خلال أخذ عِلْمْ القرءان بهدف إقامة الخير والإحسان. ونحن عندما نأخُذ عِلمْ القرءان نُصبح من الّذين يُطيقونَهُ، أي نُصبح من الّذين يتطوعون ويفدون بِإطعام مِسكين، إنَّ "فديةُ طعام مِسكين" لها معنىً ظاهِرًا ومعنىً باطنًا، وكِلاهُما مربوط بالآخر، ولا نستطيع أن نفصلهما عن بعضهما البعض، فلا يصح صيامنا إلاَّ بتطبيق معناه الظاهر والباطن.
المعنى الظاهِر: هو أن نفدي بإطعام المساكين والمُحتاجين في أي مكان احتاج أهله إلى الطعام أو الشراب أو الكِسوة أو غيره من المساعدة الإنسانية، وهذا يُترجم بفعل الخير والإحسان والبر والعدل إلخ. وهذا الصيام بمعناه الظاهر كتَبَهُ الله تعالى أي فرضهُ على الّذين يُطيقونه، مِمّا يعني أنَّ الصيام هو فرضٌ فقط على الّذين لديهم القدرة على أن يُطعموا مسكينًا (أو مساكينًا). إذًا فالصيام هو فرض فقط على الّذين لديهم القدرة المادية والعملية لإطعام المساكين والفقراء والمحتاجين وليس فرضًا على المسكين أو على الفقير والمحتاج.
والمعنى الباطِن: هو أن نفدي بإطعام المساكين والمُحتاجين من كِتابِ الله بتوصيل وتبليغ رسالة القرءان إلى جميع الأمم في هذه الأرض بهدف فعل البر والإحسان والتقوى. وهذا الفرض هو فرضٌ على الّذين يُطيقونَ الصيام. أي هو فرضٌ على الّذين يقدرون عليه. أي هو فرض على الّذين أصبحوا قادرين بسبب معرفتهم وتدبرهم لعلم القرءان وإيمانهم الخالص بِهِ على طهارة أنفسهم وعلى التوبة والامتناع عن فعل السيِّئات وإقامة الحسنات، وذلك من خلال تطبيقهم لآيات القرءان وممارستها على أرض الواقع. إذًا فالصِيام هو "فِديةٌ طعام مِسكين" بكل ما تحمل وتشمل هذه الكلمة أو هذا التعريف من معنى.
وإذا ضربنا معنى الصيام ببعضه ظاهرًا وباطنًا، نجد تعريفًا كاملاً متكاملاً وشاملاً لهذا المعنى. الصيام هو طهارة النفس والتوبة بالامتناع عن الكُفر والإشراك والشر والظلم والفساد من خلال تعلم وتدبر ودراسة القرءان، أي من خلال إيماننا بالقرءان بهدف تطبيق الإحسان والعدل والإصلاح للمساكين والمُحتاجين والفقراء في هذه الأرض، مع توصيل رسالة القرءان لِجميع الناس بهدف أن نحُثَّهُم أيضًا على الصيام بتعلم وتدبر القرءان للإمتناع عن السيِّئات بتطبيق الإحسان والعدل والإصلاح أي بفعل الخير، فيكون الله تعالى بذلك قد أخرجنا من الظلمات (جهنم) إلى النور (الجنة). ولذلك أكمل تعالى آية (184) بقولِهِ: "فَمَن تَطَوَّعَ خَيۡرًا فَهُوَ خَيۡرٌ لَّهُ ۥۚ وَأَن تَصُومُواْ خَيۡرٌ لَّڪُمۡۖ إِن كُنتُمۡ تَعۡلَمُونَ"، لأنَّ الصيام الّذي هو تطوعنا لفعل الخير (على جميع أشكالِهِ) والّذي هو فدية طعام مسكين فيه خيرٌ لنا، لأنه يُطهِّر أنفسنا ويُكفر عنّا سيِّئاتنا ويُدخلنا الجنة في الآخرة، نجد الدليل في الآية التالية آية (187) من سورة البقرة:
9. هل الصيام هو الإمساك عن الأكل والشرب؟
سُوۡرَةُ البَقَرَة
أُحِلَّ لَڪُمۡ لَيۡلَةَ ٱلصِّيَامِ ٱلرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَآٮِٕكُمۡۚ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمۡ وَأَنتُمۡ لِبَاسٌ لَّهُنَّۗ عَلِمَ ٱللَّهُ أَنَّڪُمۡ كُنتُمۡ تَخۡتَانُونَ أَنفُسَڪُمۡ فَتَابَ عَلَيۡكُمۡ وَعَفَا عَنكُمۡۖ فَٱلۡـَٔـٰنَ بَـٰشِرُوهُنَّ وَٱبۡتَغُواْ مَا ڪَتَبَ ٱللَّهُ لَكُمۡۚ وَكُلُواْ وَٱشۡرَبُواْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ ٱلۡخَيۡطُ ٱلۡأَبۡيَضُ مِنَ ٱلۡخَيۡطِ ٱلۡأَسۡوَدِ مِنَ ٱلۡفَجۡرِۖ ثُمَّ أَتِمُّواْ ٱلصِّيَامَ إِلَى ٱلَّيۡلِۚ وَلَا تُبَـٰشِرُوهُنَّ وَأَنتُمۡ عَـٰكِفُونَ فِى ٱلۡمَسَـٰجِدِۗ تِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلَا تَقۡرَبُوهَاۗ كَذَالِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ ءَايَـٰتِهِۦ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمۡ يَتَّقُونَ (١٨٧).
إذا تدبرنا هذه الآية الكريمة فسوف نجد فيها تفصيلاً لِكَيفِيَّة الصيام. التبسيط اللُّغوي لتلك الآية هو: لقد كان الناس (ومن بينهم قوم الرسول محمد عليه السلام) قبل نزول القرءان الكريم يختانون أنفسهم (أي يُخادعون ويُكذِّبون) ويقولون بأنَّ الله تعالى أمَرَهُمْ بِعدم الرَّفَث (أي الجماع) إلى نسائِهم في ليلة الصيام (وهذا نجده حتّى يومنا هذا في العقيدة المسيحية الباطلة)، لذلك أنزل الله تعالى تلك الآية الكريمة حتى يُحِلَّ لهم ما حرَّم عليهم دينهم الّذي حُرِّفَ قبل مُدَّة من نزول القرءان بقوله لهم في تلك الآية: "أُحِلَّ لَڪُمۡ لَيۡلَةَ ٱلصِّيَامِ ٱلرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَآٮِٕكُمۡۚ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمۡ وَأَنتُمۡ لِبَاسٌ لَّهُنَّۗ عَلِمَ ٱللَّهُ أَنَّڪُمۡ كُنتُمۡ تَخۡتَانُونَ أَنفُسَڪُمۡ فَتَابَ عَلَيۡكُمۡ وَعَفَا عَنكُمۡۖ فَٱلۡـَٔـٰنَ بَـٰشِرُوهُنَّ". وكذلك كان مفهوم الصيام الّذي أنزله الله تعالى عليهم في كتب التوراة والإنجيل في السابق والّذي هو "فدية طعام مسكين" قد حُرِّفَ وأصبح صِيامًا عن الطعام، وعن أنواع محددة من الطعام، وفي أوقات مُعيَّنة من اليوم، ولذلك أمر الله تعالى الّذين ءامنوا من الناس بأن يأكلوا ويشربوا، بقولِهِ لهم: "فكُلوا واشربوا..."، لِكي يُعلمنا أنَّ الصيام هو ليس الإمساك عن الأكل والشرب، ولكنَّهُ لا يكون إلاَّ بالأكل والشرب.
إنَّ مبدأ وهدف الصِيام هو أن نأكُل ونشرب من رزق الله بهدف أن نُطعِم ونسقي المِسكين والمحتاج (المساكين والمحتاجين). في هذه الآية الكريمة أمرنا الله تعالى أن نأكل ونشرب "حتّى يتبيَّنَ لنا الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر" وأن "نُتِمَّ صيامنا إلى الّيْل" أي أن نبقى مُستمرين ومثابرين على صيامنا أي على أكلنا وشُربِنا "إلى الّيْل". في هذه الآية الكريمة لم يذكر الله عز وجل لنا أي شيء عن المغرب (أو عن غروب الشمس)، بل قال لنا وبكل وضوح: "ثمَّ أتِمّوا الصِّيام إلى الّيْل" ولم يقُل لنا "ثمَّ أتِمّوا الصِّيام إلى المغرب". إذًا فصيامنا بأكلنا وشربنا يبقى قائمًا إلى الّيْل وليس إلى المغرب. بل أكثر من ذلك، نجد أنَّ الله عز وجل لم يُحدد لنا في أي وقت من الّيْل علينا أن نتوقف عن الصيام لقوله تعالى: "ثمَّ أتِمّوا الصِّيام إلى الّيْل"، ومن هذا المنطلق نستطيع أن نتساءل، متى نتوقف عن الصيام، وفي أي ساعة أو قت من الّيْل يكون الصيام قد تم؟ الجواب هو "لا يوجد جواب" لأنَّ الله عز وجل لم يُبيِّن لنا الوقت الّذي فيه يُمكننا التوقف عن الصيام. هذا يدلنا بل يؤكد لنا أنَّ الصيام المقصود به في هذه الآية له مفهوم آخر مُختلف تمامًا عن مفهوم الصيام التراثي وليس له أي دعوة به. نجد أيضًا في هذه الآية أنَّ الله عز وجل لم يذكر لنا كلمة إفطار ولا حتّى في جميع آيات القرءان، فمن أين جاء علماء السلف بكلمة الفطور أو الإفطار وبتوقيتِهِ تحديدًا بوقت غروب الشمس إذا لم يكن الله عز وجل قد ذكر لنا أي شيء عنه في القرءان الكريم؟
إنَّ المقصود بالأكل والشرب في هذه الآية البيِّنة، هو أن نأكُل ونشرب من القرءان، فالقرءان هو الغذاء الروحي للإنسان لأنَّهُ يُحيي نفسهُ، تمامًا كما يُحيي الأكل والشرب جسدهُ. إذًا فالله تعالى يُحيي أنفسنا بالروح الّتي هي آياته البينات الّتي أنزلها علينا ووضعها لنا في القرءان، ولقد أمرنا الله تعالى أن نُداوم على أكلنا وشربنا من آياتِهِ حتّى يتبيَّنَ لنا "الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر". وهذا يعني أنَّهُ علينا أن نأكل ونشرب من آيات الله حتى يتبيّنَ لنا الفرق بين الحق والباطل من القرءان، أي حتّى يتبيَّنَ لنا الفرق بين الخير والشر من القرءان، ومن ثُمَّ علينا أن نُتِم (أي نُكمِل) صِيامنا بأكلنا وشربنا من القرءان إلى الّيَلْ، فنداوم على ذلك في كل يوم إلى أن تُصبِح لدينا القدرة على فهم جميع آيات القرءان وعلى التمييز الكامل بين الخير والشر بهدف طهارة أنفسنا وامتناعنا عن فعل السيّئات بفعل الحسنات وبتطبيق ما أمرنا الله تعالى في كل آية من آياته الكريمة. لذلك أكمل الله تعالى هذه الآية بقولِهِ: "وَلَا تُبَـٰشِرُوهُنَّ وَأَنتُمۡ عَـٰكِفُونَ فِى ٱلۡمَسَـٰجِدِ" دليل لنا على أنَّ الصِيام كان يُقام في عهد الرسول محمد عليه السلام في المساجِد (لأنَّ المساجد هي البيوت الّي أذن الله أن تُرفع ويُذكر فيها إسمُهُ، أي كتابُهُ)، ودليل لنا على أنَّ المساجد كان يعمرها نِساءٌ مؤمنات ورجالٌ مؤمنين بهدف الصيام بتعلم القرءان، أي بهدف الأكل والشرب من القرءان من دون إسراف، وإنَّ عدم الإسراف لا يكون إلاّ بإطعام المساكين والمحتاجين، كما أخبرنا تعالى في الآيات التالية من سورة الأعراف:
سورة الأعراف
يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ﴿٣١﴾ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ۚ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴿٣٢﴾.
لقد كان المؤمنون في زمن الرسول محمد (عليه السلام) يذهبون إلى المساجد (بيوت الله تعالى) يأكلون ويشربون ويُطعِمون المساكين والمحتاجين في أوقات استطاعتِهم من النهار، من الفجر إلى الَّيل. لذلك قال تعالى في هذه الآية الكريمة آية (187) -وذلك بعد أن أحلَّ لهم الرَّفَثَ إلى نِسائِهم- "ولا تُباشِروهُنَّ وأنتم عاكِفونَ في المساجد" (أي لا تباشروهن وقت صيامكم خلال النهار في المساجد) ولكن فقط في الَّيل بعد انتهاء صيامكم ورجوعكم إلى منازلكم. إذًا فالصيام كان يُقام في المساجد، والّذين كانوا يعكفون في المساجد كانوا المؤمنين (رجالاً) وأزواجهم (نساءً). هذه الآية تدلُّنا بل تؤكِّد لنا أنَّ الاختلاط بين النساء والرجال في زمن الرسول كان مُباحًا. لقد كان مسموحًا للرجال الاختلاط بالنساء في المساجد في زمن الرَّسول محمد عليه السلام، في سبيل تعلم القرءان والأكل والشرب وإطعام المساكين وإقامة الإحسان بهدف طهارة النفس وفعل الخَير، تمامًا كما فصَّل سُبحانهُ وتعالى لنا هذا الأمر في آيات كثيرة في القرءان الكريم.
أمّا بالنسبة للمريض أو للّذي على سفر أو للّذي لا يُطيقه (الفقير والمسكين)، فهو لا يستطيع الصِيام لأنَّهُ ليس لديه القدرة عليه بعد، أي ليس لديه القدرة المادية والمعنوية والفرصة لتعلم القرءان أو لِإطعام مِسكين أو لِتبليغ رِسالة القرءان. بمعنى أشمَل، إنَّ المريض أو الّذي على سفر أو الّذي لا يُطيقُهُ (كالفقير مثلاً) ليس جاهزًا لإقامة وتطبيق الصيام، لذلك أعطاهُ الله تعالى الفرصة للصيام (أي للتوبة والامتناع عن السيِّئات بالرجوع إلى القرءان وبِتطبيقه بفعل الخير) في أيامٍ أُخَرْ أي في وقتٍ آخر أو حين يحينُ الوقت المُناسب له للصِيام.
إنَّ آية (187) تدلنا أنَّ الصيام يُقام في الّيْل والنهار وليس فقط في النهار كما يظن أكثر الناس.
الدليل على أنَّ الصيام يُقام في الّيْل نجده في قولِهِ تعالى: "أُحِلَّ لَڪُمۡ لَيۡلَةَ ٱلصِّيَامِ" وفي قولِهِ أيضًا: "ثُمَّ أَتِمُّواْ ٱلصِّيَامَ إِلَى ٱلَّيۡلِۚ".
والدليل على أنَّ الصيام يُقام في النَّهار نجده في قولِهِ تعالى: "وَكُلُواْ وَٱشۡرَبُواْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ ٱلۡخَيۡطُ ٱلۡأَبۡيَضُ مِنَ ٱلۡخَيۡطِ ٱلۡأَسۡوَدِ مِنَ ٱلۡفَجۡرِ" وفي قوله أيضًا: "وَلَا تُبَـٰشِرُوهُنَّ وَأَنتُمۡ عَـٰكِفُونَ فِى ٱلۡمَسَـٰجِدِ".
إذًا فإنَّ الصيام لا يكون إلاَّ بالأكل والشرب من القرءان وإقامته، والعمل بِما يأمرنا الله عز وجل في آياتِهِ ليلاً ونهارًا. ونحن نأكل ونشرب من كتاب الله بهدف الاستغفار، حتى نُطهر أنفسنا به، فنصوم أي نُمسِك عن ارتكاب الذنوب والمعاصي، فنتوب، فيغفر الله لنا ويُدخلنا الجنة في الآخرة.
10. الدليل على جميع النقاط الّذي ذكرتُها لكم في أعلاه:
سورة البقرة
شَہۡرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِىٓ أُنزِلَ فِيهِ ٱلۡقُرۡءَانُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَـٰتٍ مِّنَ ٱلۡهُدَىٰ وَٱلۡفُرۡقَانِۚ فَمَن شَہِدَ مِنكُمُ ٱلشَّہۡرَ فَلۡيَصُمۡهُۖ وَمَن ڪَانَ مَرِيضًا أَوۡ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنۡ أَيَّامٍ أُخَرَۗ يُرِيدُ ٱللَّهُ بِڪُمُ ٱلۡيُسۡرَ وَلَا يُرِيدُ بِڪُمُ ٱلۡعُسۡرَ وَلِتُڪۡمِلُواْ ٱلۡعِدَّةَ وَلِتُڪَبِّرُواْ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَٮٰكُمۡ وَلَعَلَّڪُمۡ تَشۡكُرُونَ (١٨٥).
نجد في قول الله تعالى "يُريدُ اللهُ بِكُمُ اليُسْرَ ولا يُريدُ بِكُمُ العُسْرَ" دليلاً قوِيًّا على تعريف الصيام. هل من اليسر أن نبقى من دون غِذاء ومن دون ماء نهارًا كامِلاً يتكرَّر لمدَّة 30 يومًا وخاصَّة في بلادنا الحارّة ووقت العمل؟ أليس الله سبحانه وتعالى أدرى بِطبيعة خلقنا وبحاجة جسدنا إلى الغذاء والماء؟ ولماذا على المسكين أن يمتنع هو أيضًا عن الأكل والشرب على الرغم من أنه أحوج الناس إلى الغذاء اليومي والطاقة؟ وهل هذا يُسرٌ على المسكين والمحتاج بأن يمنعه ربَّهُ ويجعله يُمسك عن الأكل والشرب طوال النهار؟ أليس كافٍ لهذا المسكين هذا الفقر الّذي يعيش فيه كل يوم في حياته؟ وهل عليه هو أيضًا أن يشعر مع مسكين آخر مثله وهو بأمَسِّ الحاجة لِمَن يشعر معه؟
نجد في هذه الآية العظيمة والبيِّنة آية (185) أنَّ الله عز وجل يُذكِّرُنا بأنَّ القرءان أُنزِلَ في شهر الحَرّْ بقولِهِ فيها "شَہۡرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِىٓ أُنزِلَ فِيهِ ٱلۡقُرۡءَانُ"، تذكرةً منهُ بقيمة القرءان العظيمة. إنَّ قوم الرسول محمد عليه السلام كانوا على شفا حفرة من النّار فأراد الله عز وجل أن يُخرجهم منها بتنزيل القرءان. وكذلك الأمر بالنسبة لنا، فكم من الناس في زمننا الحالي هُم على شفا حفرة من النار ولا يستطيعون الخروج منها إلاَّ بواسطة القرءان الّذي هو الإنجيل والتوراة وجميع رسالات الله باللغة العربية، وهذا كان السبب الأوَّل والأخير الّذي حفظ الله تعالى من أجله القرءان بمشيئتِهِ ومنع تحريفه.
إذًا فالشهر هو كناية عن القرءان، وصيام شهر رمضان هو كناية عن الإمساك أو الامتناع عن عذاب جهنم بواسطة القرءان، لأنَّ القرءان الكريم أُنزِل في هذا الشهر وهو وحدهُ الّذي يستطيع أن يُبعِدُنا عن نار أو عذاب جهنم ويُدخلنا الجنة، لأنه يهدي الناس من خلال آياتِهِ البيِّنات لأنهُ يفرق بين الحق والباطل، فهو يُبيِّن للناس ما هو طريق الحق وما هو طريق الباطل ويفرق بينهما، فيحث الإنسان بذلك على فعل الخير والإحسان أي على الإصلاح في الأرض، ولذلك قال تعالى في هذه الآية: "هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَـٰتٍ مِّنَ ٱلۡهُدَىٰ وَٱلۡفُرۡقَانِۚ"، لأننا لا نستطيع أن نهتدي ولا أن نفرق بين الحق والباطل إلاّ بالقرءان الكريم كما بيَّن تعالى لنا في آية (9) من سورة الإسراء بقوله فيها: "إِنَّ هَٰذَا الْقُرْءانَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا". لقد وصف الله عز وجل القرءان في هذه الآية (آية 185 من سورة البقرة) "بالفرقان" تمامًا كما قال تعالى في آية (187) من سورة البقرة: "وَكُلُواْ وَٱشۡرَبُواْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ ٱلۡخَيۡطُ ٱلۡأَبۡيَضُ مِنَ ٱلۡخَيۡطِ ٱلۡأَسۡوَدِ مِنَ ٱلۡفَجۡرِ"، هذا يعني أنه علينا أن نأكل ونشرب من القرءان أي من رزق الله حتى (أي لِكَيْ) يتبيَّنَ لنا الفرق بين الخير والشرّ، حتى نستطيع أن نفرُقْ أي نُميِّز طريق الخير من طريق الشر، فلا نُسرِف.
إذًا فإنَّ صيامنا أي إمساكنا هو ليس إمساك عن الطعام والشراب المادي، ولكنَّهُ إمساك عن السيِّئات وبالتالي عن عذاب جهنم بتعلّمنا وتدبّرنا للقرءان وإقامته، ولذلك أكمل الله تعالى آية (185) في سورة البقرة بقولِهِ: "يُرِيدُ ٱللَّهُ بِڪُمُ ٱلۡيُسۡرَ وَلَا يُرِيدُ بِڪُمُ ٱلۡعُسۡرَ وَلِتُڪۡمِلُواْ ٱلۡعِدَّةَ وَلِتُڪَبِّرُواْ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَٮٰكُمۡ وَلَعَلَّڪُمۡ تَشۡكُرُونَ"، لاحظوا قول الله تعالى: "وَلِتُڪَبِّرُواْ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَٮٰكُمۡ وَلَعَلَّڪُمۡ تَشۡكُرُونَ"، لأنَّ الله تعالى يريد أن يهدينا لكي نُكبِّره فيمنعنا بذلك من دخول جهنم ويُدخلنا الجنة. وإنَّ قوله هذا هو أكبر دليل على أنَّ صيام شهر رمضان هو إمساكٌ عن دخول جهنم، وهذا الإمساك لا يكون إلاّ بهدايتنا بكِتابِهِ.
إذًا فإنَّ أمر الله تعالى لنا بقوله في آية (187): "وَكُلُواْ وَٱشۡرَبُواْ"، هو أمرٌ لنا بالأكل والشرب من القرءان "لكي نُكبِّرُهُ على ما هدانا": أي لكي نؤمن بِهِ ونُبلِّغ رسالاته لجميع الناس ونقيمها بينهم، و"لعلَّنا نشكُر لهُ": أي لعلنا نفعل الخير والإحسان ونقيم الإصلاح بين الناس في الأرض في سبيله.
إذا كان الصيام هو الإمساك عن الطعام والشراب كما علمونا، فهل نكون بصيامنا هذا "نُكبِّر الله على ما هدانا ونشكر له"؟ وهل التكبير والشكر لله على ما هدانا من قرءان يكون بإمساكنا عن الطعام والشراب كل يوم إلى أن تغرب الشمس ولمدة 30 يومًا؟
وإذا قارنا الآيات التالية، آية (185) من سورة البقرة بآية (3) من سورة المائدة، نجد أنَّ قول الله تعالى في آية (185) من سورة البقرة: "وَلِتُڪۡمِلُواْ ٱلۡعِدَّةَ" هو متشابه مع قوله تعالى في آية (3) من سورة المائدة: "ٱلۡيَوۡمَ أَكۡمَلۡتُ لَكُمۡ دِينَكُمۡ وَأَتۡمَمۡتُ عَلَيۡكُمۡ نِعۡمَتِى"، إذًا فإنَّ صيامنا لإكمال العِدَّة هو صيامنا لإكمال ديننا ولإتمام نعمة الله علينا، أي لأخذنا وتدبرنا لعلم القرءان كاملاً والعمل به، أي لختمنا لعلم القرءان بكل ما تحتوي هذه الكلمة من معاني.
وإنَّ قول الله تعالى لنا في آية (185) من سورة البقرة: "فَمَن شَہِدَ مِنكُمُ ٱلشَّہۡرَ فَلۡيَصُمۡهُۖ وَمَن ڪَانَ مَرِيضًا أَوۡ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنۡ أَيَّامٍ أُخَرَ"، هو تمامًا كقولِهِ في آية (184) من سورة البقرة: "فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوۡ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنۡ أَيَّامٍ أُخَرَۚ وَعَلَى ٱلَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدۡيَةٌ طَعَامُ مِسۡكِينٍ"، ونحن فقط بعمل الخير والإحسان والعدل وإقامة الإصلاح نكون من الّذين يُطيقون الصيام، أي نكون من الّذين يقدرون أن يُمسكوا وأن يمتنعوا عن دخول جهنم، ولقد قال الله عز وجل لنا في هذه الآية: "فَمَن شَہِدَ مِنكُمُ ٱلشَّہۡرَ فَلۡيَصُمۡهُ"، ولم يقل: "فَمَن شاهد مِنكُمُ ٱلشَّہۡرَ فَلۡيَصُمۡهُ" وهناك فرق كبير في المعنى ما بين كلمة "شَهِدَ" وما بين كلمة "شاهَدَ".
11. متى نشهَدْ شهر رمضان، أي متى نُطيقُ الصِيام؟ أو بالأحرى متى نشهد القرءان؟
في زمن الرسول محمد عليه السلام شهِدَ الناس الشهر وقت نزول القرءان، ففي ذلك الوقت لم يكُن القرءان مُنتشرًا بعد في الأرض، ولم يكُن الناس على عِلمْ ودراية بِهِ، ولذلك عندما نزل القرءان الكريم أمر الله تعالى قوم الرسول محمد عليه السلام والناس بالصِيام لِكَيْ يُخرِجهُم بِهِ من الظلمات إلى النور، ولذلك قال تعالى في آية (183) و(184): "يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيۡڪُمُ ٱلصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِڪُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ (١٨٣) أَيَّامًا مَّعۡدُودَاتٍۚ... (١٨٤). في هذه الآية لم يُحدِّد الله عز وجل لنا عدد تِلك الأيام المعدودات. إذًا فإنَّ الأيام المعدودات هو الوقت أو الزمن الّذي احتاجهُ الناس في زمن الرسول للصِيام بتعلُّم القرءان من الرسول ومن المؤمنين عندما كانوا يعكِفونَ في المساجِد لِحين انتهاء نزوله أي لحين أخذ عِلمِهِ كاملاً (أي لحين إِكمال العِدَّة)، لذلك قال الله تعالى في آية (187): "وَلَا تُبَـٰشِرُوهُنَّ وَأَنتُمۡ عَـٰكِفُونَ فِى ٱلۡمَسَـٰجِدِۗ تِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلَا تَقۡرَبُوهَاۗ كَذَالِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ ءَايَـٰتِهِۦ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمۡ يَتَّقُونَ"، ولذلك قال تعالى أيضًا في آية (185): "يُريدُ ٱللَّهُ بِڪُمُ ٱلۡيُسۡرَ وَلَا يُرِيدُ بِڪُمُ ٱلۡعُسۡرَ وَلِتُڪۡمِلُواْ ٱلۡعِدَّةَ وَلِتُڪَبِّرُواْ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَٮٰكُمۡ وَلَعَلَّڪُمۡ تَشۡكُرُونَ"، فالله تعالى يُريد بنا اليُسر (إدخالنا الجنة) ولا يُريد بنا العُسر (إدخالنا جهنم)، ويُريدنا أن نُكمِل العِدَّة (أن نأخذ علم القرءان كامِلاً في الأيام المعدودات الّتي تُترجم من أوَّل نزول القرءان إلى آخِر نزولِهِ) ويُريدُنا أن نُكبِّرهُ على ما هدانا إليه بالشُّكر لَهُ (بإقامة الصلواة وإيتآء الزكواة).
إذًا فإنَّ وقت الصِيام في زمن الرسول محمد حُدِّدَ بوقت نزول القرءان لِكَيْ يتعلَّمه قوم الرسول ولِكَيْ يُبلِّغونهُ للناس أجمعين خلال وقت نزولِهِ ولِكي يُقيموا الإصلاح من خِلالِهِ. أمّا في زمننا هذا فالقرءان موجود في جميع أقطار الأرض، وكل إنسان فينا يستطيع أن يشهد شهر رمضان في الوقت الّذي يهديهِ الله تعالى لِكِتابِهِ الكريم، وهذا الوقت مُمكِنْ أن يكون في أي يوم من أيام السنة وليس بالضروري أن يكون في شهر الصيف أو في وقت الصيف، لأنَّ القرءان موجود في الأرض بِصفةٍ دائِمة، والّذي يُريدُ أن يشهدهُ (أي أن يأخُذ عِلمَهُ) لِكَيْ يصُمْهُ (أي لِكَي يمتنع بِهِ عن فعل المعاصي بفعل الخير والإحسان وإطعام المساكين) يستطيع أن يفعل ذلك في الوقت الّذي يُريدُهُ، وعندما نشهد الشهر أي عندما نشهد القرءان علينا أن نَصُمهُ وأن نبقى قائِمين على صِيامِنا مدى حياتِنا، إذًا فإنَّ وقت الصِيام الّذي حدَّدهُ الله تعالى في سورة البقرة بدأ بشهر رمضان الّذي أُنزِلَ فيه القرءان، وهذا الوقت حدَّدهُ الله تعالى للرسول وقومه في زمنهم، وسوف ينتهي بانتهاء هذه الأرض، وبما أنَّ هذا القرءان موجود ودائِم في زمننا وفي كل زمن وجيل سوف يأتي بعدنا، وبما أنه سوف يبقى في متناول جميع الناس في هذه الأرض حتّى نهايتها، إذًا فإنَّ كل إنسان في زمننا وكل إنسان سوف يأتي من بعدنا يستطيع أن يشهد الشهر (القرءان) فيصوم متى أراد ذلك وفي أي وقت أراد ذلك، إذا رغِب أن يكون الله عز وجل قريبًا منه فيستجيب لدعوته له من خلال آياته، ولذلك أكمل تعالى آية (185) بآية (186) بقوله فيها:
سورة البقرة
وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴿١٨٦﴾.
نحنُ ندعو الله عز وجل بآياتِهِ الكريمة (أسمآئه الحُسنى) ونستجيب له بتدبرنا للقرءان وبإقامته بهدف أن نصبح بعد تدبرنا من الراشدين من الّذين يستطيعون التمييز بين الحق والباطل. والله عز وجل يكون قريبًا منا فيستجيب لدعائِنا له بواسطة آياتِهِ الكريمة (أسمآئه الحُسنى) وقت تدبرنا للقرءان وتقربنا إليه بإقامته، ويستجيب لدعائنا له عندما نصبح بعد التدبر من الراشدين من الّذين يستطيعون التمييز بين الحق والباطل فنكون بذلك قد "تبيَّن لنا الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر".
12. باختصار مُفيد:
1- إنَّ إكمال العدة هو إكمال علم القرءان كاملاً، أي هو أخذ وتعلم القرءان كاملاً بهدف تكبير الله وشُكرهُ أي بهدف إقامة الصلواة أي إقامة القرءان بين الناس.
2- شهد منكم الشهر = شهد منكم الكتاب أي القرءان = أخذ ورأى وتعلم علم القرءان كاملاً، لأنَّ الله تعالى أنزل القرءان كاملاً في مدة شهر.
3- شهر رمضان هو كناية عن الوقت الّذي نزل فيه القرءان على الرسول محمد عليه السلام في قومه آنذاك، وكان هذا الوقت في زمن الرسول هو الوقت الّذي منَّ الله تعالى فيه على محمد وقومه لهدايتهم، وأنتم تشهدون الشهر منذ الوقت الّذي يهديكم الله تعالى إلى قرءانِهِ، وهو الوقت الّذي فيه يكون صيامكم (أي ابتعادكم عن جهنم) قد بدأ، وإذا داومتم على القرءان فسوف يبقى صيامكم قائِمًا.
إذًا فنحن لا نصوم في نفس الوقت، لأنَّ كل إنسان فينا يبدأ صيامه عندما يهديه الله تعالى للقرءان، وهذا يعني أنَّ الصيام لا يُحدد بشهر مُعيَّن، لأنَّ الوقت الّذي يهدي الله تعالى فيهِ الناس يختلف من إنسان إلى آخر، وإنَّ كلمة شهر في القرءان ليس الهدف منها في الحقيقة أن نصوم في شهر مُعيَّن، ولكنَّ الشهر هو كناية عن نزول القرءان كاملاً خلال 30 يومًا، وتذكرةً لنا بقيمة هذا الشهر العظيم الّذي نزل القرءان الكريم فيه. ونحن إذا شهدنا الشهر نكون قد شهدنا علم القرءان كاملاً حتّى ولو كان وقت معرفتنا لعلم القرءان قد أخذ منّا وقتًا طويلاً، مثلاً سنتين أو ثلاثة أو أربع سنوات. فالرسول محمد عليه السلام وقومه قد شهدوا الشهر لسنوات عديدة، ونحن عندما نشهد الشهر فعلينا أن نصُمْهُ بالقرءان، أي علينا أن نبتعد عن طريق الشر والظلم والفساد من خلال تعلمنا وتطبيقنا للقرءان، وعلينا الإبقاء، أي الحفاظ على صيامنا إلى آخر حياتنا.
4- الصيام = الامتناع عن جهنم = الامتناع عن الذنوب والمعاصي = دخول الجنة.
فليصمه = فليمتنع عن الذنوب والشر والمعاصي بأكله وشربِهِ من القرءان.
5- "فَمَن شَہِدَ مِنكُمُ ٱلشَّہۡرَ فَلۡيَصُمۡهُ": إنَّ كلمة "شَهِدَ" لا تعني شَاهَدَ، مِمّا ينفي لنا تحديد وقت الصيام برؤية القمر، وإنَّ كلمة "منكم" هي حالة استثنائِيَّة، وهذا ما أخبرتكم بِهِ عن أنَّه ليس بالضرورة أن نشهد الشهر في نفس الوقت، وهناك إحتمال كبير أيضًا أن لا نشهد الشهر أبدًا في حياتنا، وهذا هو في الحقيقة ما يحدث في هذه الأرض بالنسبة لأكثر الناس، لأنَّ أكثرهم لا يُريدون الهداية والامتناع (الصيام) عن فعل السيِّئات (جهنم) ولذلك لن يهديهم الله تعالى إلى قرءانِهِ، وبالتالي فلن يشهدوا الشهر.
6- إنَّ ليلة القدر هي ليلة نزول القرءان أو التوراة أو الإنجيل سابقًا، وليس بالضرورة أن يكون نزول القرءان لمحمد هو في نفس الوقت الّذي نزلت فيه التوراة لموسى أو نزل فيه الإنجيل لعيسى. فالوقت الّذي شهد محمد فيه الشهر ليس بالضرورة أن يكون نفس الوقت الّذي شهد فيه موسى أو عيسى الشهر، فكل رسول كان له وقته الخاص للهداية، وكل أمَّة كان لها وقتها الخاص للهداية، فمثلاً عيسى عليه السلام قد شهد الشهر وهو في رحم أمِّهِ مريم خلافًا لموسى أو لمحمد، وإنَّ ليلة القدر هي كل ليلة كان الله تعالى يوحي فيها كتبه على أنبيائِهِ ورُسُلِهِ، وبالنسبة للقرءان فإنَّ ليلة القدر كانت 30 يومًا أو شهرًا كاملاً، وبالنسبة لموسى كانت 30 يومًا أتمَّها الله تعالى ب10 أيام إضافية فأصبحت 40 يومًا، وبالنسبة لعيسى كانت الأشهر الّتي كان فيها في رحم أمِّهِ مريم (سلام على جميع الأنبياء والمرسلين).
7- إذا تدبَّرنا آية (12) من سورة الإسراء، نجد أنَّ الله تعالى أرادنا أن نحسب الأشهر بواسطة الشمس وليس بواسطة القمر، هذا يدلُّنا على أنَّ مفهوم شهر رمضان هو ليس كما يظن أكثر المسلمين، مِمّا يُثبت لكم أيضًا ما ذكرتُهُ عن معنى شهر رمضان.
سُوۡرَةُ الإسرَاء
وَجَعَلۡنَا ٱلَّيۡلَ وَٱلنَّہَارَ ءَايَتَيۡنِۖ فَمَحَوۡنَآ ءَايَةَ ٱلَّيۡلِ وَجَعَلۡنَآ ءَايَةَ ٱلنَّہَارِ مُبۡصِرَةً لِّتَبۡتَغُواْ فَضۡلاً مِّن رَّبِّكُمۡ وَلِتَعۡلَمُواْ عَدَدَ ٱلسِّنِينَ وَٱلۡحِسَابَۚ وَڪُلَّ شَىۡءٍ فَصَّلۡنَـٰهُ تَفۡصِيلاً (١٢).
آية الّيل هي آية القمر، وآية النهار هي آية الشمس.
13. في الختام:
يقولون بأنَّ رمضان كريم، هل الكرم يكون كرمًا حين نضع موائِد الطعام كُلّْ ليلة وفيها ما تشتهي وتلذُّ الأعين، بينما الَّذين ملكت أيماننا من المساكين والمحتاجين ليس لهم نصيب في تلك الموائِد؟ أم أنَّ الكرم يكون كرمًا عندما نرزق طعامنا وشرابنا لِمن هُو بِأمَسِّ الحاجة إلَيْها في هذا الشهر الفضيل وفي جميع أشهُرِ السَّنة؟ الجواب بسيط جدًا بالنسبة للمؤمن، ولا يوجد منطق قبله ولا بعده، وهو أنَّ الكرم لا يكون كرمًا إلاّ عندما نُطعِم ونُسقي المساكين من رزق الله الّذي رزقنا إيّاهُ (بمعناه الظاهر والباطن). أمّا بالنسبة لِلَّذين يؤمنون بالأحاديث والشريعة والتفاسير الكاذِبة، فلا يكون الكرم كرمًا إلاّ في نصب موائِد الأطعِمة والأشربة وفي استِضافتهم على الإفطار بعضهم البعض للتفاخُر بينهم ولأخذ الأجر من بعضهم وفي إسرافهم في الأكل والشرب، بينما الفقراء والمساكين واليتامى والمحتاجين يموتون من الجوع والعطش. ألا لعنة الله على المُسرفين...
يقولون أيضًا بِأن الله تعالى يُضاعِف لنا الحسنات في شهر رمضان. بِاللهِ عَليْكُم أخبِرونا، كيف يكون إمساكنا عن الأكل والشرب فيهِ حسنات لنا؟
والأهم من ذلك يقولون بِأنّه علينا أن نختم القرءان في شهر رمضان بالمفهوم الشائع الّذي تعلمناه من دين ءابآئنا، فنأخذ بذلك حسنات كثيرة. كيف يكون ختم القرءان فيه حسنات من دون أن نفهمه أو نعقِلهُ أو نعمل به؟ فإذا كُنّا لا نعلم طِوال تلك السنوات كيف نتدبر الصيام من القرءان ولا نعلم مفهومه بالرُّغمِ من ختمنا له لعشرات المَرّات، فماذا أفادَنَا خَتْم القرءان العظيم؟
في النهاية، سوف أختم هذا الموضوع بتعريف واضح للصيام من القرءان الكريم، من خلال قول الله عز وجل في الآية التالية آية (95) من سورة المائدة:
سورة المائدة
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ۚ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَٰلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ ۗ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ ۚ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ ﴿٩٥﴾.
أدعو الله تعالى أن يتقبل صيامنا الحقيقي الّذي هو تدبر القرءان الكريم، ونشر الخير والإصلاح والإبتعاد عن الظلم والفساد، ومساعدة الفقراء والمساكين.
14. لقراءة هذا الموضوع (رمضان والصيام) مُفصَّلاً، إضغط على هذا الرابط بعنوان: مفهوم رمضان والصيام ظاهرًا وباطنًا في القرءان الكريم (1)
والسلام عليكم
27 Jun 03 2016