مفهوم رمضان والصيام ظاهرًا وباطنًا في القرءان الكريم (2)
مفهوم رمضان والصيام ظاهرًا وباطنًا في القرءان الكريم (2)
7. إذا تدبرنا جيدًا آيات الصيام في سورة البقرة:
سُوۡرَةُ البَقَرَة
يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيۡڪُمُ ٱلصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِڪُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ (١٨٣) أَيَّامًا مَّعۡدُودَاتٍۚ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوۡ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنۡ أَيَّامٍ أُخَرَۚ وَعَلَى ٱلَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدۡيَةٌ طَعَامُ مِسۡكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيۡرًا فَهُوَ خَيۡرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيۡرٌ لَّڪُمۡۖ إِن كُنتُمۡ تَعۡلَمُونَ (١٨٤) شَہۡرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِىٓ أُنزِلَ فِيهِ ٱلۡقُرۡءَانُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَـٰتٍ مِّنَ ٱلۡهُدَىٰ وَٱلۡفُرۡقَانِۚ فَمَن شَہِدَ مِنكُمُ ٱلشَّہۡرَ فَلۡيَصُمۡهُۖ وَمَن ڪَانَ مَرِيضًا أَوۡ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنۡ أَيَّامٍ أُخَرَۗ يُرِيدُ ٱللَّهُ بِڪُمُ ٱلۡيُسۡرَ وَلَا يُرِيدُ بِڪُمُ ٱلۡعُسۡرَ وَلِتُڪۡمِلُواْ ٱلۡعِدَّةَ وَلِتُڪَبِّرُواْ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَٮٰكُمۡ وَلَعَلَّڪُمۡ تَشۡكُرُونَ (١٨٥) وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِى عَنِّى فَإِنِّى قَرِيبٌۖ أُجِيبُ دَعۡوَةَ ٱلدَّاعِ إِذَا دَعَانِۖ فَلۡيَسۡتَجِيبُواْ لِى وَلۡيُؤۡمِنُواْ بِى لَعَلَّهُمۡ يَرۡشُدُونَ (١٨٦) أُحِلَّ لَڪُمۡ لَيۡلَةَ ٱلصِّيَامِ ٱلرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَآٮِٕكُمۡۚ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمۡ وَأَنتُمۡ لِبَاسٌ لَّهُنَّۗ عَلِمَ ٱللَّهُ أَنَّڪُمۡ كُنتُمۡ تَخۡتَانُونَ أَنفُسَڪُمۡ فَتَابَ عَلَيۡكُمۡ وَعَفَا عَنكُمۡۖ فَٱلۡـَٔـٰنَ بَـٰشِرُوهُنَّ وَٱبۡتَغُواْ مَا ڪَتَبَ ٱللَّهُ لَكُمۡۚ وَكُلُواْ وَٱشۡرَبُواْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ ٱلۡخَيۡطُ ٱلۡأَبۡيَضُ مِنَ ٱلۡخَيۡطِ ٱلۡأَسۡوَدِ مِنَ ٱلۡفَجۡرِۖ ثُمَّ أَتِمُّواْ ٱلصِّيَامَ إِلَى ٱلَّيۡلِۚ وَلَا تُبَـٰشِرُوهُنَّ وَأَنتُمۡ عَـٰكِفُونَ فِى ٱلۡمَسَـٰجِدِۗ تِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلَا تَقۡرَبُوهَاۗ كَذَالِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ ءَايَـٰتِهِۦ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمۡ يَتَّقُونَ (١٨٧).
نجد من خلال جميع تلك الآيات البينات أنَّ الصِيام هو في الحقيقة الإمتناع عن فعل السَّيِّئات والمعاصي من خلال أخذ عِلْمْ القرءان بهدف إقامة الخير والإحسان. ونحن عندما نأخُذ عِلمْ القرءان نُصبح من الّذين يُطيقونَهُ، أي نُصبح من الّذين يتطوعون ويفدون بِإطعام مِسكين. إنَّ "فديةُ طعام مِسكين" لها معنىً ظاهِرًا ومعنىً باطنًا، وكِلاهُما مربوط بالآخر، ولا نستطيع أن نفصلهما عن بعضهما. فلا يصح صيامنا إلاَّ بتطبيق معناه الظاهر والباطن:
المعنى الظاهِر: هو أن نفدي بإطعام المساكين والمُحتاجين في أي مكان احتاج أهله إلى الطعام أو الشراب أو الكِسوة أو غيره من المساعدة الإنسانية، وهذا يُترجم بفعل الخير والإحسان والبر والعدل إلخ، وهذا الصيام بمعناه الظاهر كتَبَهُ الله تعالى أي فرضهُ على الّذين يُطيقونه، مِمّا يعني أنَّ الصيام هو فرضٌ فقط على الّذين لديهم القدرة على أن يُطعموا مسكينًا (أو مساكينًا). إذًا فالصيام هو فرض فقط على الّذين لديهم القدرة المادية والعملية لإطعام المساكين والفقراء والمحتاجين وليس فرضًا على المسكين أو على الفقير والمحتاج.
والمعنى الباطِن: هو أن نفدي بإطعام المساكين والمُحتاجين من كِتابِ الله بتوصيل وتبليغ رسالة القرءان إلى جميع الأمم في هذه الأرض بهدف فعل البر والإحسان والتقوى، وهذا الفرض هو فرضٌ على الّذين يُطيقونَ الصيام، أي هو فرضٌ على الّذين يقدرون عليه، أي هو فرض على الّذين أصبحوا قادرين بسبب معرفتهم وتدبرهم لعلم القرءان وإيمانهم الخالص بِهِ، على طهارة أنفسهم، وعلى التوبة والإمتناع عن فعل السيِّئات وإقامة الحسنات، وذلك من خلال تطبيقهم لآيات القرءان وممارستها على أرض الواقع.
إذًا فالصِيام هو "فِديةٌ طعام مِسكين" بكل ما تحمل وتشمل هذه الكلمة أو هذا التعريف من معنى.
إذا ضربنا معنى الصيام ببعضه ظاهرًا وباطنًا، نجد تعريفًا كاملاً متكاملاً وشاملاً لِمعنى الصيام. الصيام هو طهارة النفس والتوبة بالإمتناع عن الكُفر والإشراك والشر والظلم والفساد من خلال تعلم وتدبر ودراسة القرءان، أي من خلال إيماننا بالقرءان بهدف تطبيق الإحسان والعدل والإصلاح للمساكين والمُحتاجين والفقراء في هذه الأرض، مع توصيل رسالة القرءان لِجميع الناس بهدف أن نحُثَّهُم أيضًا على الصيام بتعلم وتدبر القرءان للإمتناع عن السيِّئات بتطبيق الإحسان والعدل والإصلاح أي بفعل الخير، فيكون الله تعالى بذلك قد أخرجنا من الظلمات (جهنم) إلى النور (الجنة). ولذلك أكمل تعالى آية 184 بقولِهِ: "فَمَن تَطَوَّعَ خَيۡرًا فَهُوَ خَيۡرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيۡرٌ لَّڪُمۡۖ إِن كُنتُمۡ تَعۡلَمُونَ"، لأنَّ الصيام الّذي هو تطوعنا لفعل الخير (على جميع أشكالِهِ) والّذي هو "فدية طعام مسكين" فيه خيرٌ لنا، لأنه يُطهِّر أنفسنا ويُكفر عنّا سيِّئاتنا ويُدخلنا الجنة في الآخرة. ولذلك قال تعالى أيضًا في آية 187 من سورة البقرة:
سورة البقرة
أُحِلَّ لَڪُمۡ لَيۡلَةَ ٱلصِّيَامِ ٱلرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَآٮِٕكُمۡۚ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمۡ وَأَنتُمۡ لِبَاسٌ لَّهُنَّۗ عَلِمَ ٱللَّهُ أَنَّڪُمۡ كُنتُمۡ تَخۡتَانُونَ أَنفُسَڪُمۡ فَتَابَ عَلَيۡكُمۡ وَعَفَا عَنكُمۡۖ فَٱلۡـَٔـٰنَ بَـٰشِرُوهُنَّ وَٱبۡتَغُواْ مَا ڪَتَبَ ٱللَّهُ لَكُمۡۚ وَكُلُواْ وَٱشۡرَبُواْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ ٱلۡخَيۡطُ ٱلۡأَبۡيَضُ مِنَ ٱلۡخَيۡطِ ٱلۡأَسۡوَدِ مِنَ ٱلۡفَجۡرِۖ ثُمَّ أَتِمُّواْ ٱلصِّيَامَ إِلَى ٱلَّيۡلِۚ وَلَا تُبَـٰشِرُوهُنَّ وَأَنتُمۡ عَـٰكِفُونَ فِى ٱلۡمَسَـٰجِدِۗ تِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلَا تَقۡرَبُوهَاۗ كَذَالِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ ءَايَـٰتِهِۦ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمۡ يَتَّقُونَ (١٨٧).
إذا قرأنا وتمعَّنّا جيِّدًا في هذه الآية الكريمة (آية 187)، فسوف نجد تفصيلاً لِكَيفِيَّة الصيام. التبسيط اللُّغوي لتلك الآية هو:
لقد كان الناس (من بينهم قوم الرسول محمد عليه السلام) قبل نزول القرءان الكريم يختانون أنفسهم (أي يُخادعون ويُكذِّبون) ويقولون بأنَّ الله تعالى أمَرَهُمْ بِعدم الرَّفَث (الجماع) إلى نسائِهم في ليلة الصيام (وهذا نجده حتّى يومنا هذا في العقيدة المسيحية)، لذلك أنزل الله تعالى تلك الآية الكريمة حتى يُحِلَّ لهم ما حرَّم عليهم دينهم الّذي حُرِّفَ قبل مُدَّة من نزول القرءان. وكذلك كان مفهوم الصيام الّذي أنزله الله تعالى عليهم في كتب التوراة والإنجيل في السابق والّذي هو "فدية طعام مسكين" قد حُرِّفَ وأصبح صِيامًا عن الطعام، وعن أنواع محددة من الطعام، وفي أوقات مُعيَّنة من اليوم. ولذلك أمر الله تعالى الّذين ءامنوا من الناس بأن يأكلوا ويشربوا، بقولِهِ لهم: "فكُلوا واشربوا..."، لِكي يُعلمنا أنَّ الصيام ليس الإمتناع أو الإمساك عن الأكل والشرب، ولكنَّهُ لا يكون إلاَّ بالأكل والشرب.
(صيام اليهود والمسيحيين وغيرهم، تستطيعون أن تجدونه بمتناول أيديكم ومُفصلاًّ في صفحة ال (google) على النت).
هذه الآية (آية 187) هي أكبر دليل على معنى الصِيام. الصِيام ليس الإمتناع عن الأكل والشرب كما يقولُ جُهلاء الدين، بل على العكس تمامًا. إنَّ مبدأ وهدف الصِيام هو أن نأكُل ونشرب من رزق الله بهدف أن نُطعِم ونسقي المِسكين والمحتاج (المساكين والمحتاجين). في هذه الآية أمرنا الله تعالى أن نأكل ونشرب "حتّى يتبيَّنَ لنا الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر"، وأن "نُتِمَّ صيامنا إلى الّيْل"، أي أن نبقى مُستمرين ومثابرين على صيامنا أي على أكلنا وشُربِنا إلى الّيْل. في هذه الآية الكريمة لم يذكر الله عز وجل لنا أي شيء عن المغرب (أو عن غروب الشمس)، بل قال لنا وبكل وضوح: "ثمَّ أتِمّوا الصِّيام إلى الّيْل" ولم يقُل لنا "إلى المغرب"، إذًا فالصيام بأكلنا وشربنا يكون إلى الّيْل. في هذه الآية الكريمة لم يذكر الله تعالى لنا كلمة إفطار ولا حتّى في جميع آيات القرءان. فمن أين جاء السلف بكلمة الفطور أو الإفطار وبتوقيتِهِ تحديدًا وقت غروب الشمس إذا لم يكن الله تعالى قد ذكر لنا أي شيء عنه في القرءان الكريم؟
إذا نظرنا جيدًا في مفهوم تلك الآية البيِّنة (آية 187) وتدبرنا معناها وربطنا جميع كلماتها ببعضها، نجد وبكل وضوح المعنى الحقيقي للصيام، ونجد المقصود من معنى الأكل والشرب والخيط الأبيض والخيط الأسود والفجر والّيْل والمساجد وحدود الله، ونجد بالتحديد ما أراد الله عز وجل أن يُبيِّنهُ للناسِ من خلال آياتِهِ لعلَّهُم يتَّقون، لقولِهِ تعالى في تلك الآية (آية 187): "كَذَالِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ ءَايَـٰتِهِۦ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمۡ يَتَّقُونَ".
8. ما هو مفهوم الأكل والشرب في القرءان الكريم؟
سورة البقرة
أُحِلَّ لَڪُمۡ لَيۡلَةَ ٱلصِّيَامِ ٱلرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَآٮِٕكُمۡۚ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمۡ وَأَنتُمۡ لِبَاسٌ لَّهُنَّۗ عَلِمَ ٱللَّهُ أَنَّڪُمۡ كُنتُمۡ تَخۡتَانُونَ أَنفُسَڪُمۡ فَتَابَ عَلَيۡكُمۡ وَعَفَا عَنكُمۡۖ فَٱلۡـَٔـٰنَ بَـٰشِرُوهُنَّ وَٱبۡتَغُواْ مَا ڪَتَبَ ٱللَّهُ لَكُمۡۚ وَكُلُواْ وَٱشۡرَبُواْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ ٱلۡخَيۡطُ ٱلۡأَبۡيَضُ مِنَ ٱلۡخَيۡطِ ٱلۡأَسۡوَدِ مِنَ ٱلۡفَجۡرِۖ ثُمَّ أَتِمُّواْ ٱلصِّيَامَ إِلَى ٱلَّيۡلِۚ وَلَا تُبَـٰشِرُوهُنَّ وَأَنتُمۡ عَـٰكِفُونَ فِى ٱلۡمَسَـٰجِدِۗ تِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلَا تَقۡرَبُوهَاۗ كَذَالِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ ءَايَـٰتِهِۦ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمۡ يَتَّقُونَ (١٨٧).
إنَّ المقصود بالأكل واالشرب في هذه الآية البيِّنة، هو أن نأكُل ونشرب من القرءان. فالقرءان هو الغذاء الروحي للإنسان لأنَّهُ يُحيي نفسهُ، تمامًا كما يُحيي الأكل والشرب جسدهُ. إذًا فالله تعالى يُحيي أنفسنا بالروح الّتي هي آياته البينات الّتي أنزلها علينا ووضعها لنا في القرءان. ولقد أمرنا الله تعالى أن نُداوم على أكلنا وشربنا من آياتِهِ حتّى يتبيَّنَ لنا "الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر". وهذا يعني أنَّهُ علينا أن نأكل ونشرب من آيات الله حتى يتبيّنَ لنا الفرق بين الحق والباطل من القرءان، أي حتّى يتبيَّنَ لنا الفرق بين الخير والشر من القرءان، ومن ثُمَّ علينا أن نُتِم (أي نُكمِل) صِيامنا بأكلنا وشربنا من القرءان إلى الّيَلْ، فنداوم على ذلك في كل يوم إلى أن تُصبِح لدينا القدرة على فهم جميع آيات القرءان وعلى التمييز الكامل بين الخير والشر، بهدف طهارة أنفسنا وامتناعنا عن فعل السيّئات بفعل الحسنات وبتطبيق ما أمرنا الله تعالى في كل آية من آياته الكريمة. لذلك أكمل الله تعالى هذه الآية بقولِهِ: "وَلَا تُبَـٰشِرُوهُنَّ وَأَنتُمۡ عَـٰكِفُونَ فِى ٱلۡمَسَـٰجِدِۗ" دليلاً لنا على أنَّ الصِيام كان يُقام في عهد الرسول محمد عليه السلام في المساجِد (لأنَّ المساجد هي البيوت الّي أذن الله أن تُرفع ويُذكر فيها إسمُهُ أي كتابُهُ)، ودليلاً لنا على أنَّ المساجد كان يعمرها نِساءٌ مؤمنات ورجالٌ مؤمنين بهدف الصيام بتعلم القرءان، أي بهدف الأكل والشرب من القرءان من دون إسراف. وإنَّ عدم الإسراف لا يكون إلاّ بإطعام المساكين والمحتاجين.
لقد كان المؤمنون في زمن الرسول محمد (عليه السلام) يذهبون إلى المساجد (بيوت الله تعالى) ويأكلون ويشربون ويُطعِمون المساكين والمحتاجين في أوقات استطاعتِهم من النهار، من الفجر إلى الَّيل. لذلك قال تعالى في الآية الكريمة 187 وذلك بعد أن أحلَّ لهم الرَّفَثَ إلى نِسائِهم "ولا تُباشِروهُنَّ وأنتم عاكِفونَ في المساجد" (أي لا تباشروهن وقت صيامكم خلال النهار في المساجد) ولكن فقط في الَّيل بعد إنتهاء صيامكم ورجوعكم إلى منازلكم. إذًا فالصيام كان يُقام في المساجد. والّذين كانوا يعكفون في المساجد كانوا المؤمنون وأزواجهم. هذه الآية تدلُّنا بل تؤكِّد لنا أنَّ الإختلاط بين النساء والرجال في زمن الرسول كان مُباحًا. لقد كان مسموحًا للرجال الإختلاط بالنساء في المساجد في زمن الرَّسول محمد عليه السلام، في سبيل تعلم القرءان، والأكل والشرب وإطعام المساكين وإقامة الإحسان، بهدف طهارة النفس وفعل الخَير، تمامًا كما قال سُبحانهُ وتعالى لنا في الآيات التالية من سورة الأعراف وسورة الإسراء. وإذا تابعنا جميع الآيات التالية، نجد فيها أيضًا المفهوم الحقيقي للأكل والشرب الّذي أراد القرءان الكريم أن يُبيِّنه لنا في كل آية من آياته الكريمة ذُكِرَ الأكل والشرب فيها:
سورة البقرة
أُحِلَّ لَڪُمۡ لَيۡلَةَ ٱلصِّيَامِ ٱلرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَآٮِٕكُمۡۚ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمۡ وَأَنتُمۡ لِبَاسٌ لَّهُنَّۗ عَلِمَ ٱللَّهُ أَنَّڪُمۡ كُنتُمۡ تَخۡتَانُونَ أَنفُسَڪُمۡ فَتَابَ عَلَيۡكُمۡ وَعَفَا عَنكُمۡۖ فَٱلۡـَٔـٰنَ بَـٰشِرُوهُنَّ وَٱبۡتَغُواْ مَا ڪَتَبَ ٱللَّهُ لَكُمۡۚ وَكُلُواْ وَٱشۡرَبُواْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ ٱلۡخَيۡطُ ٱلۡأَبۡيَضُ مِنَ ٱلۡخَيۡطِ ٱلۡأَسۡوَدِ مِنَ ٱلۡفَجۡرِۖ ثُمَّ أَتِمُّواْ ٱلصِّيَامَ إِلَى ٱلَّيۡلِۚ وَلَا تُبَـٰشِرُوهُنَّ وَأَنتُمۡ عَـٰكِفُونَ فِى ٱلۡمَسَـٰجِدِۗ تِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلَا تَقۡرَبُوهَاۗ كَذَالِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ ءَايَـٰتِهِۦ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمۡ يَتَّقُونَ (١٨٧).
سُوۡرَةُ الإسرَاء
أَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ لِدُلُوكِ ٱلشَّمۡسِ إِلَىٰ غَسَقِ ٱلَّيۡلِ وَقُرۡءَانَ ٱلۡفَجۡرِۖ إِنَّ قُرۡءَانَ ٱلۡفَجۡرِ كَانَ مَشۡہُودًا (٧٨) وَمِنَ ٱلَّيۡلِ فَتَهَجَّدۡ بِهِۦ نَافِلَةً لَّكَ عَسَىٰٓ أَن يَبۡعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحۡمُودًا (٧٩).
إنَّ مبدأ ومفهوم الصيام وأوقاته في آية 187 من سورة البقرة له نفس مبدأ ومفهوم الصلواة وأوقاتها في آية 78 و79 من سورة الإسراء:
"أَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ لِدُلُوكِ ٱلشَّمۡسِ إِلَىٰ غَسَقِ ٱلَّيۡلِ وَقُرۡءَانَ ٱلۡفَجۡرِ" = "وَكُلُواْ وَٱشۡرَبُواْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ ٱلۡخَيۡطُ ٱلۡأَبۡيَضُ مِنَ ٱلۡخَيۡطِ ٱلۡأَسۡوَدِ مِنَ ٱلۡفَجۡرِۖ ثُمَّ أَتِمُّواْ ٱلصِّيَامَ إِلَى ٱلَّيۡلِۚ".
إذًا فنحنُ نُقيم الصلواة لأنفسنا بالصيام.
سُوۡرَةُ الاٴعرَاف
يَـٰبَنِىٓ ءَادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمۡ عِندَ كُلِّ مَسۡجِدٍ وَڪُلُواْ وَٱشۡرَبُواْ وَلَا تُسۡرِفُوٓاْۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُسۡرِفِينَ (٣١) قُلۡ مَنۡ حَرَّمَ زِينَةَ ٱللَّهِ ٱلَّتِىٓ أَخۡرَجَ لِعِبَادِهِۦ وَٱلطَّيِّبَـٰتِ مِنَ ٱلرِّزۡقِۚ قُلۡ هِىَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ فِى ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا خَالِصَةً يَوۡمَ ٱلۡقِيَـٰمَةِۗ كَذَالِكَ نُفَصِّلُ ٱلۡأَيَـٰتِ لِقَوۡمٍ يَعۡلَمُونَ (٣٢) قُلۡ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّىَ ٱلۡفَوَحِشَ مَا ظَهَرَ مِنۡہَا وَمَا بَطَنَ وَٱلۡإِثۡمَ وَٱلۡبَغۡىَ بِغَيۡرِ ٱلۡحَقِّ وَأَن تُشۡرِكُواْ بِٱللَّهِ مَا لَمۡ يُنَزِّلۡ بِهِۦ سُلۡطَـٰنًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ مَا لَا تَعۡلَمُونَ (٣٣).
إذا تمعَّنا في تلك الآيات البينات من سورة الأعراف نجد أنَّ زينة الإنسان هي زينة الله الّتي أخرجها لعبادِهِ من الأرض بقوله تعالى: "قُلۡ مَنۡ حَرَّمَ زِينَةَ ٱللَّهِ ٱلَّتِىٓ أَخۡرَجَ لِعِبَادِهِ"، وهي أيضًا الطيِّبات من الرزق بقوله تعالى: "وَٱلطَّيِّبَـٰتِ مِنَ ٱلرِّزۡقِۚ". إذًا فزينة المؤمن هي ماله أو رزقه الّذي رزقه الله تعالى إيَّاه بمعناه الظاهر والباطن، وهي ليست ظهوره بالثِّياب الجميلة الفاخرة في المساجد والتَّكَبُّر بِها على المساكين والمحتاجين كما يقول جهلاء الدين في تفاسيرهم الباطلة. لقد أخبرنا الله تعالى في كتابه الكريم بأنَّ المال والبنون زينة الحياة الدنيا وأنَّها زينة سلبية وليست إيجابية كما يظن أكثر الناس. وأخبرنا أيضًا أنَّهُ هو الّذي يرزقنا المال والطَّيَّبات من الرزق لكي نأكل ونُطعِمُ بها المساكين. إذًا فالزينة لا يصُحُّ استخدامها إلاّ بهدف إعطائها للمساكين أو بهدف استخدامها في سبيل الخير والإصلاح، وإلاَّ تُصبح هذه الزينة "زينة الحياة الدُّنيا" كالمال والبنون، فيكون بذلك استخدامها مُخالِفًا لِما أراده الله عز وجل لنا بِإعطائنا إيّاها.
نجد في آية 31 أنَّ الله تعالى يأمرنا (بني آدم) بأن نأخذ زينتنا أي طعامنا وشرابنا (ظاهرًا وباطنًا) عند كل مسجد لكي نُطعم به المساكين، ولذلك أكمل تعالى تلك الآية بآية 32 بأن يسألنا من خلالها: "من يملك الحق في تحَريِم الطعام والشراب والرزق الطيِّب على المساكين وهو الّذي يرزقنا إياه؟"، وأكمل أيضًا بقوله: "بِأنَّ كل مؤمن يُطعِمُ المساكين في المساجد في الحياة الدنيا سوف يطعمه الله يوم القيامة في الجنة من رزقها الخالص الطاهر". لذلك أمرنا الله تعالى أن نأكل ونشرب ونطعم المحتاجين من دون أن نسرف في أكلنا، لأنَّ الإسراف يكون عندما نَطْعَمْ ولا نُطْعِمْ، أي عندما نأخذ الرزق الّذي رزقنا الله تعالى إياه فقط لِأنفسنا ولا نعطيه للمساكين، فنكون بذلك نُحرِّمُهُ على غيرنا. هنا يحثُّنا الله تعالى على المشاركة في الرزق، فهو رزق الله وليس رزقنا ولذلك لا يحق لنا إمتلاكه لأنفسنا حتى لا نكون من المسرفين.
إذًا، بعد تدبرنا لآية 31 وربطها بالآيات الّتي تليها، نجد أنَّ الله تعالى يأمرنا ويحُثُنا على أخذ زينتنا أي مالنا وأكلنا وشربنا (بالمعنى الظاهر والباطن للزينة) عند كل مسجد أي عند كل بيت أو مكان يُقام أو يُرفع في سبيل الله ويُسجد فيه لهُ بذكر إسمِهِ، بهدف أن نأكل ونشرب ولا نُسرف، أي بهدف أن نصوم ونفدي بإطعام مِسكين، أي بهدف أن نأكُل ونشرب ونُطعِم المسكين والمُحتاج (مادِّيًا ومعنويًّا)، ولذلك أكمل تعالى بقوله في آية 32: "قُلۡ مَنۡ حَرَّمَ زِينَةَ ٱللَّهِ ٱلَّتِىٓ أَخۡرَجَ لِعِبَادِهِۦ وَٱلطَّيِّبَـٰتِ مِنَ ٱلرِّزۡقِۚ قُلۡ هِىَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ فِى ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا خَالِصَةً يَوۡمَ ٱلۡقِيَـٰمَةِۗ كَذَالِكَ نُفَصِّلُ ٱلۡأَيَـٰتِ لِقَوۡمٍ يَعۡلَمُونَ". وأكمل أيضًا بقوله في آية 33: "قُلۡ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّىَ ٱلۡفَوَحِشَ مَا ظَهَرَ مِنۡہَا وَمَا بَطَنَ وَٱلۡإِثۡمَ وَٱلۡبَغۡىَ بِغَيۡرِ ٱلۡحَقِّ وَأَن تُشۡرِكُواْ بِٱللَّهِ مَا لَمۡ يُنَزِّلۡ بِهِۦ سُلۡطَـٰنًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ مَا لَا تَعۡلَمُونَ".
ونحن إذا قارنا تلك الآيات من سورة الأعراف بآية 187 من سورة البقرة، نجد أنَّ الصِّيام يُقام في المساجد، وأنَّهُ ليس الإمتناع عن الأكل والشرب، ولكنَّهُ يُقام بالأكل والشرب ولكن من دون إسراف.
الإسراف هو من فعل سَرَفَ. وسرفَ في الأمر يعني أغفلهُ وجهِلهُ وأخطأهُ. وأسرف في الأمر يعني أخطئ وجهِلَ وغفلَ. والسَرَفْ هو الخطئ والجهل والغفل. ورجُلٌ سرِفُ الفؤاد يعني غافِل. ورجُلٌ سرِفُ العقل يعني فاسِدُهُ أو قليلُهُ. وأسرَفَ المال يعني بذَّرَهُ. وأسرَفَ في كذا يعني تجاوزَ الحد والإعتدال. والسَّرَف هو تجاوز الحد والإعتدال.
من خلال مُقارنة آيات سورة الأعراف بآية 187 من سورة البقرة، أستطيع أن أُعطي نفسي الحق بأن أقول أنَّ الصيام هو الإمتناع عن السيِّئات والذنوب والمعاصي، وأنَّهُ لا يكون إلاَّ بأكلنا وشربنا من القرءان حتّى يتبيَّن لنا الفرق بين الحق والباطل لكي نتوب عن الإسراف الّذي هو إرتكابنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق والإشراك والكفر بالله، بهدف أن نقيم الإصلاح في هذه الأرض.
هذا ما بيَّنه الله تعالى لنا في الآيات التالية:
سُوۡرَةُ الکهف
ٱلۡمَالُ وَٱلۡبَنُونَ زِينَةُ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۖ وَٱلۡبَـٰقِيَـٰتُ ٱلصَّـٰلِحَـٰتُ خَيۡرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيۡرٌ أَمَلاً (٤٦).
نجد أنَّ المال والبنون زينة الحيواة الدنيا، وهذا رزقٌ سلبي، ولذلك أكمل تعالى بقوله: "وَٱلۡبَـٰقِيَـٰتُ ٱلصَّـٰلِحَـٰتُ خَيۡرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيۡرٌ أَمَلاً".
سُوۡرَةُ غَافر
وَيَـٰقَوۡمِ مَا لِىٓ أَدۡعُوڪُمۡ إِلَى ٱلنَّجَوٰةِ وَتَدۡعُونَنِىٓ إِلَى ٱلنَّارِ (٤١) تَدۡعُونَنِى لِأَڪۡفُرَ بِٱللَّهِ وَأُشۡرِكَ بِهِۦ مَا لَيۡسَ لِى بِهِۦ عِلۡمٌ وَأَنَا۟ أَدۡعُوڪُمۡ إِلَى ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡغَفَّـٰرِ (٤٢) لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدۡعُونَنِىٓ إِلَيۡهِ لَيۡسَ لَهُ دَعۡوَةٌ فِى ٱلدُّنۡيَا وَلَا فِى ٱلۡأَخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَآ إِلَى ٱللَّهِ وَأَنَّ ٱلۡمُسۡرِفِينَ هُمۡ أَصۡحَـٰبُ ٱلنَّارِ (٤٣).
نجد معنى الإسراف واضحًا في تلك الآيات من سورة غافر. المُسرِف هو الّذي يُسرِف في دين الله بكفره بالله وإشراكه بِهِ ما ليس له بِهِ عِلم، إذًا فالمُسرف هو الّذي يدعو إلى النار.
سُوۡرَةُ النّحل
وَٱللَّهُ فَضَّلَ بَعۡضَكُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٍ فِى ٱلرِّزۡقِۚ فَمَا ٱلَّذِينَ فُضِّلُواْ بِرَآدِّى رِزۡقِهِمۡ عَلَىٰ مَا مَلَڪَتۡ أَيۡمَـٰنُہُمۡ فَهُمۡ فِيهِ سَوَآءٌۚ أَفَبِنِعۡمَةِ ٱللَّهِ يَجۡحَدُونَ (٧١).
يحثنا الله تعالى من خلال هذه الآية الكريمة أن لا نرد أو نمنع رزقه الّذي رزقنا إيّاهُ وفضَّلنا بِهِ على ما ملكت أيماننا أي على المساكين والمحتاجين، بل على العكس، علينا أن نُحِسنَ إليهم وأن نكون في هذا الرزق سوآء، أي علينا أن نتقاسمه بالتساوي بيننا وبين هؤلآء المساكين والمحتاجين.
سُوۡرَةُ الرُّوم
ضَرَبَ لَكُم مَّثَلاً مِّنۡ أَنفُسِكُمۡۖ هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتۡ أَيۡمَـٰنُكُم مِّن شُرَڪَآءَ فِى مَا رَزَقۡنَـٰڪُمۡ فَأَنتُمۡ فِيهِ سَوَآءٌ تَخَافُونَهُمۡ كَخِيفَتِڪُمۡ أَنفُسَكُمۡۚ ڪَذَالِكَ نُفَصِّلُ ٱلۡأَيَـٰتِ لِقَوۡمٍ يَعۡقِلُونَ (٢٨).
نجد هنا أيضًا (كالآية الّتي سبقتها) مفهوم الشراكة والمُشاركة بالتساوي في رزق الله، ما بين الّذي أعطاه الله عز وجل من رزقه وما بين الّذي يحتاج إلى رزقِهِ الّذين هُم "ملكت أيمانكم" أي المساكين والمحتاجين والضعفآء. إذًا فالهدف من إعطاء الله تعالى رزقه ونِعمَهُ لنا ظاهِرةً وباطِنةً، هو بهدف أن نأكل ونشرب منها ونُطعِم ونُسقي الضعفاء والمساكين (ملكت أيماننا) فنبتعد بذلك عن الإسراف.
سُوۡرَةُ فُصّلَت
قُلۡ أَٮِٕنَّكُمۡ لَتَكۡفُرُونَ بِٱلَّذِى خَلَقَ ٱلۡأَرۡضَ فِى يَوۡمَيۡنِ وَتَجۡعَلُونَ لَهُ أَندَادًاۚ ذَالِكَ رَبُّ ٱلۡعَـٰلَمِينَ (٩) وَجَعَلَ فِيہَا رَوَاسِىَ مِن فَوۡقِهَا وَبَـٰرَكَ فِيہَا وَقَدَّرَ فِيہَآ أَقۡوَاتَہَا فِىٓ أَرۡبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَآءً لِّلسَّآٮِٕلِينَ (١٠).
لقد بارك الله عز وجل لجميع الناس في هذه الأرض، وأنزل من السماء رزقها وأخرج من الأرض قوتها وماءها ومرعاها بهدف أن يتقاسمه جميع سُكّان الأرض بالتساوي بينهم، لا بهدف الظلم والفساد والقتل والطغيان والسيطرة والتملك في هذه الأرض.
سوف نُكمل متابعتنا للآيات الّتي تختص بالأكل والشرب أي بالصيام:
سُوۡرَةُ المؤمنون
يَـٰٓأَيُّہَا ٱلرُّسُلُ كُلُواْ مِنَ ٱلطَّيِّبَـٰتِ وَٱعۡمَلُواْ صَـٰلِحًاۖ إِنِّى بِمَا تَعۡمَلُونَ عَلِيمٌ (٥١) وَإِنَّ هَـٰذِهِۦۤ أُمَّتُكُمۡ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّڪُمۡ فَٱتَّقُونِ (٥٢).
الأكل من الطيبات هو الأكل من كُتُبِ الله ورسالآتِهِ، لأنَّ كتب الله تُحيي الإنسان الميِّت كما قال تعالى لنا في آية 122 من سورة الأنعام.
سُوۡرَةُ الاٴنعَام
فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ ٱسۡمُ ٱللَّهِ عَلَيۡهِ إِن كُنتُم بِـَٔايَـٰتِهِۦ مُؤۡمِنِينَ (١١٨) وَمَا لَكُمۡ أَلَّا تَأۡڪُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ ٱسۡمُ ٱللَّهِ عَلَيۡهِ وَقَدۡ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيۡكُمۡ إِلَّا مَا ٱضۡطُرِرۡتُمۡ إِلَيۡهِۗ وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ بِأَهۡوَآٮِٕهِم بِغَيۡرِ عِلۡمٍۗ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعۡلَمُ بِٱلۡمُعۡتَدِينَ (١١٩) وَذَرُواْ ظَـٰهِرَ ٱلۡإِثۡمِ وَبَاطِنَهُ ۥۤۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكۡسِبُونَ ٱلۡإِثۡمَ سَيُجۡزَوۡنَ بِمَا كَانُواْ يَقۡتَرِفُونَ (١٢٠) وَلَا تَأۡڪُلُواْ مِمَّا لَمۡ يُذۡكَرِ ٱسۡمُ ٱللَّهِ عَلَيۡهِ وَإِنَّهُ لَفِسۡقٌ وَإِنَّ ٱلشَّيَـٰطِينَ لَيُوحُونَ إِلَىٰٓ أَوۡلِيَآٮِٕهِمۡ لِيُجَـٰدِلُوكُمۡۖ وَإِنۡ أَطَعۡتُمُوهُمۡ إِنَّكُمۡ لَمُشۡرِكُونَ (١٢١) أَوَمَن كَانَ مَيۡتًا فَأَحۡيَيۡنَـٰهُ وَجَعَلۡنَا لَهُ نُورًا يَمۡشِى بِهِۦ فِى ٱلنَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِى ٱلظُّلُمَـٰتِ لَيۡسَ بِخَارِجٍ مِّنۡہَاۚ كَذَالِكَ زُيِّنَ لِلۡكَـٰفِرِينَ مَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ (١٢٢).
نجد في تلك الآيات البينات أنَّ الله عز وجل يأمرنا أن نصوم بأن نأكل "مِمّا ذُكِرَ اسمُهُ عليه". إنَّ إسم الله هو علمه الّذي وضعه لنا في آياته، وإنَّ كل آية من آيات القرءان هي إسم من أسماء الله أي علم من علومه، كما بيَّنتُ لكم في حلقات ومقالات عن موضوع: ما هي حقيقة أسماء الله الحسنى في القرءان؟
في تلك الآيات البينات يريد الله عز وجل أن يحثنا على الصيام بالأكل مِمّا أحلَّهُ لنا في كتابه بعد أن فصَّلَ لنا ما حرَّمهُ علينا. لقد أمرنا تعالى أن نأكل مِن علمِهِ الّذي ذكره لنا وأحلَّهُ في آياتِهِ. وإنَّ ما أحلَّهُ تعالى لنا هو اتباع دينه وقانونه وشريعته وسنته الّتي وضعها لنا في القرءان والّتي تأمرنا باتباع طريق الحق (طريق الله) والإبتعاد عن طريق الباطل (الشيطان والأديان المُشركة)، بفعل الحسنات والإبتعاد عن السيِّئات. وإنَّ ما حرَّمه علينا وأرادنا أن نصوم عنهُ هو الكفر والإشراك به، أي عدم اتباع أديان وقوانين وشرائع وسُنن لم يُنزل تعالى بها من سلطان، لأنها تأمرنا باتباع طريق الباطل (الشيطان والأديان الباطلة) والإبتعاد عن طريق الحق (الله جل وعلا) بفعل السيِّئات والإبتعاد عن الحسنات. إذًا فإنَّ "الّذي لم يُذكر إسم الله عليه" هو جميع الأديان الباطلة الّتي لم يذكر الله عز وجل إسمُهُ أي علمه عليها، أي لم يسمح بها ولم يضع لنا علمها في القرءان، وهي جميع الأديان الباطلة الّتي كانت وما زالت موجودة في هذه الأرض والّتي لم يُعطينا الله تعالى إسمها أي علمها في القرءان. ولذلك أكمل تعالى بتلك الآيات البينات بقوله فيها:
"وَمَا لَكُمۡ أَلَّا تَأۡڪُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ ٱسۡمُ ٱللَّهِ عَلَيۡهِ وَقَدۡ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيۡكُمۡ إِلَّا مَا ٱضۡطُرِرۡتُمۡ إِلَيۡهِۗ وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ بِأَهۡوَآٮِٕهِم بِغَيۡرِ عِلۡمٍۗ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعۡلَمُ بِٱلۡمُعۡتَدِينَ. وَذَرُواْ ظَـٰهِرَ ٱلۡإِثۡمِ وَبَاطِنَهُ ۥۤۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكۡسِبُونَ ٱلۡإِثۡمَ سَيُجۡزَوۡنَ بِمَا كَانُواْ يَقۡتَرِفُونَ. وَلَا تَأۡڪُلُواْ مِمَّا لَمۡ يُذۡكَرِ ٱسۡمُ ٱللَّهِ عَلَيۡهِ وَإِنَّهُ لَفِسۡقٌ وَإِنَّ ٱلشَّيَـٰطِينَ لَيُوحُونَ إِلَىٰٓ أَوۡلِيَآٮِٕهِمۡ لِيُجَـٰدِلُوكُمۡۖ وَإِنۡ أَطَعۡتُمُوهُمۡ إِنَّكُمۡ لَمُشۡرِكُونَ. أَوَمَن كَانَ مَيۡتًا فَأَحۡيَيۡنَـٰهُ وَجَعَلۡنَا لَهُ نُورًا يَمۡشِى بِهِۦ فِى ٱلنَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِى ٱلظُّلُمَـٰتِ لَيۡسَ بِخَارِجٍ مِّنۡہَاۚ كَذَالِكَ زُيِّنَ لِلۡكَـٰفِرِينَ مَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ".
سُوۡرَةُ المَائدة
وَإِذۡ أَوۡحَيۡتُ إِلَى ٱلۡحَوَارِيِّـۧنَ أَنۡ ءَامِنُواْ بِى وَبِرَسُولِى قَالُوٓاْ ءَامَنَّا وَٱشۡہَدۡ بِأَنَّنَا مُسۡلِمُونَ (١١١) إِذۡ قَالَ ٱلۡحَوَارِيُّونَ يَـٰعِيسَى ٱبۡنَ مَرۡيَمَ هَلۡ يَسۡتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيۡنَا مَآٮِٕدَةً مِّنَ ٱلسَّمَآءِۖ قَالَ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِن ڪُنتُم مُّؤۡمِنِينَ (١١٢) قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأۡڪُلَ مِنۡہَا وَتَطۡمَٮِٕنَّ قُلُوبُنَا وَنَعۡلَمَ أَن قَدۡ صَدَقۡتَنَا وَنَكُونَ عَلَيۡہَا مِنَ ٱلشَّـٰهِدِينَ (١١٣) قَالَ عِيسَى ٱبۡنُ مَرۡيَمَ ٱللَّهُمَّ رَبَّنَآ أَنزِلۡ عَلَيۡنَا مَآٮِٕدَةً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِّأَوَّلِنَا وَءَاخِرِنَا وَءَايَةً مِّنكَۖ وَٱرۡزُقۡنَا وَأَنتَ خَيۡرُ ٱلرَّازِقِينَ (١١٤) قَالَ ٱللَّهُ إِنِّى مُنَزِّلُهَا عَلَيۡكُمۡۖ فَمَن يَكۡفُرۡ بَعۡدُ مِنكُمۡ فَإِنِّىٓ أُعَذِّبُهُۥ عَذَابًا لَّآ أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِّنَ ٱلۡعَـٰلَمِينَ (١١٥).
سورة المآئِدة = سورة الإنجيل.
المآئِدة = الإنجيل.
تنزيل المآئِدة من السمآء = تنزيل الإنجيل وحيًا من السمآء.
كلمة عيد تعني "ذِكرى أو تذكرة"، والعيد = الذكر.
المائِدة هي الإنجيل الّذي أنزله الله عز وجل من السماءِ وحيًا على الحواريّين، لكي يأكلوا منه فيصوموا به ويمتنعوا عن فعل الشر فيحيون به، وتطمئن قلوبهم ويعلموا أنَّ عيسى ابن مريم قد صدقهم ويكونوا عليه من الشاهدين، أي يكونوا من الّذين يشهدون على عيسى الإنجيل أمام جميع الناس بتبليغه وبالعمل به.
في آية 112 و113 طلب الحواريّون من عيسى ابن مريم أن يسأل ربَّهُ "أن يُنزِّلَ عليهم مآئِدةً من السمآء" بهدف أن يأكُلوا منها، حتى تطمئِنَّ بها قُلوبهم، وحتى يعلموا أنَّ عيسى قد صدقهُم أي حتى يعلموا أنَّ عيسى ابن مريم هو كلمة الله أي هو الإنجيل ورسولٌ مِنهُ، وحتى يكونوا عليها من الشاهدين أي حتى يشهدوا على هذه المآئدة. لقد طلب الحواريّون من عيسى ابن مريم عليه السلام أن يطلب من الله أن يُنزِّلَ عليهِم الإنجيل من السماءِ وحيًا، أي أن يوحي لهُم الإنجيل حتى يأكُلوا منهُ أي يتبِعوهُ، وحتى يطمئِنوا ويُصدِّقوا أنَّ عيسى عليه السلام هو الإنجيل وأنَّهُ رسول الله إليهم، وحتى يكونوا من الشاهدين على هذا الإنجيل فيكتبوهُ ويشهدوا عليه ويُقيمونهُ بين الناس.
في آية 114 استجاب عيسىى عليه السلام لهم ودعا الله بأن يُنزِّلَ عليهم مآئِدةً من السمآء أي إنجيلاً أو وحيًا من السمآء يكون عيدًا لأوَّلِهِم وآخِرِهِم. هذا يعني أنَّ عيسى عليه السلام طلب من الله أن يُنزِّلَ عليهم وحيًا من السمآء يكون ذكرى لأوَّلِهِم وآخِرِهِمْ يكون ذكرى لهم ولقومهم ولِمن سوف يأتي بعدهم، وآيةً منهُ، أي كتابًا ورزقًا منه. تمامًا كما قال تعالى في سورة الأنبياء:
سُوۡرَةُ الاٴنبیَاء
أَمِ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِۦۤ ءَالِهَةً قُلۡ هَاتُواْ بُرۡهَـٰنَكُمۡۖ هَـٰذَا ذِكۡرُ مَن مَّعِىَ وَذِكۡرُ مَن قَبۡلِىۗ بَلۡ أَكۡثَرُهُمۡ لَا يَعۡلَمُونَ ٱلۡحَقَّۖ فَهُم مُّعۡرِضُونَ (٢٤).
في آية 115 استجاب الله تعالى لطلب عيسى والحواريّين بأن يُنزِّلَ عليهم المآئِدة أو الإنجيل أو الوحي أو الكتاب، ولقد أوحى الله تعالى إليهم الإنجيل، كما بيَّن تعالى هذا بقوله في آية 111: "وَإِذۡ أَوۡحَيۡتُ إِلَى ٱلۡحَوَارِيِّـۧنَ"، وأمرهم من خلال وحي الإنجيل بالإيمان بكل آية من آياتِهِ وبرسولِهِ عيسى ابن مريم، بقوله لهم فيها: "أَنۡ ءَامِنُواْ بِى وَبِرَسُولِى". ولكنه أنذرهم في آية 115 أنهم إذا عادوا إلى الكُفر والإشراك، بتحريف الإنجيل أو الكتاب من بعد أن هداهُم ومن بعد أن أوحاهُ إليهم، فسوف يُعذِّبُهُم في الآخرة عذابًا لا يُعذِّبُهُ أحدًا من العالمين.
فاستجاب الحواريّون في ذلك الوقت لله في آية 111 وقالوا: "ءَامَنَّا وَٱشۡہَدۡ بِأَنَّنَا مُسۡلِمُونَ"، أي شهِدوا بالإيمان بالله والإصلاح والعدل والبر والتقوى والخير والإحسان كما أمرهم الله تعالى في وحي الإنجيل الّذي أوحاه إليهم. وهذا يعني أنهم أكلوا من الطيبات في الدنيا أي ءامنوا بالله وأقاموا الإنجيل وعملوا صالحًا، وسوف يأكلون من الطيِّبات في الآخرة، تمامًا كما قال تعالى في آية 51 من سورة المؤمنون، وفي آية 32 من سورة الأعراف:
سُوۡرَةُ المَائدة
وَلَوۡ أَنَّ أَهۡلَ ٱلۡڪِتَـٰبِ ءَامَنُواْ وَٱتَّقَوۡاْ لَڪَفَّرۡنَا عَنۡہُمۡ سَيِّـَٔاتِہِمۡ وَلَأَدۡخَلۡنَـٰهُمۡ جَنَّـٰتِ ٱلنَّعِيمِ (٦٥) وَلَوۡ أَنَّہُمۡ أَقَامُواْ ٱلتَّوۡرَٮٰةَ وَٱلۡإِنجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيۡہِم مِّن رَّبِّہِمۡ لَأَڪَلُواْ مِن فَوۡقِهِمۡ وَمِن تَحۡتِ أَرۡجُلِهِمۚ مِّنۡہُمۡ أُمَّةٌ مُّقۡتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنۡہُمۡ سَآءَ مَا يَعۡمَلُونَ (٦٦).
"لَأَڪَلُواْ مِن فَوۡقِهِمۡ وَمِن تَحۡتِ أَرۡجُلِهِمۚ": أي لأكلوا من حيثُ شآءووا رغدًا من خيرات الجنة، أي لكانوا عاشوا حياةً مليئة بالخير والسلام والهناء والنعيم جسديًّا ونفسيًّا في جنات النعيم. الأكل في هذه الآية هو كناية عن النعيم وعن العيش بهناء وسلام وأمان ماديًّا ومعنويًّا.
سُوۡرَةُ البَقَرَة
ثُمَّ بَعَثۡنَـٰكُم مِّنۢ بَعۡدِ مَوۡتِكُمۡ لَعَلَّڪُمۡ تَشۡكُرُونَ (٥٦) وَظَلَّلۡنَا عَلَيۡڪُمُ ٱلۡغَمَامَ وَأَنزَلۡنَا عَلَيۡكُمُ ٱلۡمَنَّ وَٱلسَّلۡوَىٰۖ كُلُواْ مِن طَيِّبَـٰتِ مَا رَزَقۡنَـٰكُمۡۖ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَـٰكِن كَانُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ يَظۡلِمُونَ (٥٧).
لقد بعث الله عز وجل بني إسرائيل بعد أن ماتوا، أي من بعد أن ضلوا عن سبيله، فأحياهم بإرساله الغمام أي الملآئكة مرَّة أخرى عليهم بالمن والسلوى أي بوحي آيات الله لكي يأكلوا منها فيهتدوا ويُصبحوا أحيآءً بعد أن كانوا أمواتًا.
سُوۡرَةُ طٰه
يَـٰبَنِىٓ إِسۡرَآٓءِيلَ قَدۡ أَنجَيۡنَـٰكُم مِّنۡ عَدُوِّكُمۡ وَوَاعَدۡنَـٰكُمۡ جَانِبَ ٱلطُّورِ ٱلۡأَيۡمَنَ وَنَزَّلۡنَا عَلَيۡكُمُ ٱلۡمَنَّ وَٱلسَّلۡوَىٰ (٨٠) كُلُواْ مِن طَيِّبَـٰتِ مَا رَزَقۡنَـٰكُمۡ وَلَا تَطۡغَوۡاْ فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيۡكُمۡ غَضَبِىۖ وَمَن يَحۡلِلۡ عَلَيۡهِ غَضَبِى فَقَدۡ هَوَىٰ (٨١) وَإِنِّى لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ صَـٰلِحًا ثُمَّ ٱهۡتَدَىٰ (٨٢).
سُوۡرَةُ البَقَرَة
وَإِذۡ قُلۡنَا ٱدۡخُلُواْ هَـٰذِهِ ٱلۡقَرۡيَةَ فَڪُلُواْ مِنۡهَا حَيۡثُ شِئۡتُمۡ رَغَدًا وَٱدۡخُلُواْ ٱلۡبَابَ سُجَّدًا وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغۡفِرۡ لَكُمۡ خَطَـٰيَـٰكُمۡۚ وَسَنَزِيدُ ٱلۡمُحۡسِنِينَ (٥٨) فَبَدَّلَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوۡلاً غَيۡرَ ٱلَّذِى قِيلَ لَهُمۡ فَأَنزَلۡنَا عَلَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجۡزًا مِّنَ ٱلسَّمَآءِ بِمَا كَانُواْ يَفۡسُقُونَ (٥٩).
إنَّ قول الله عز وجل لبني إسرائيل في آية 58: "فَڪُلُواْ مِنۡهَا حَيۡثُ شِئۡتُمۡ رَغَدًا"، هو أمرٌ منه تعالى وحثٌ لبني إسرائيل بأن يعيشوا في هذا المكان (هذه القرية) من خلال قانون الله ودينه بسلام وأمان وهناء وخير وإحسان ونعيم وتقوى ومحبة وبر وعدل، لكي يُصلِحوا بدلاً من أن يُفسِدوا. ولذلك أكمل تعالى بقوله لهم: "وَٱدۡخُلُواْ ٱلۡبَابَ سُجَّدًا وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغۡفِرۡ لَكُمۡ خَطَـٰيَـٰكُمۡۚ وَسَنَزِيدُ ٱلۡمُحۡسِنِينَ". ولكنَّ بني إسرائيل بدَّلوا قولاً غير الّذي قيل لهم، أي بدّلوا قول الله الّذي قاله لهم في الكتاب الّذي أنزلهُ تعالى عليهم وأحلَّهُ لهم وأمرهم به بقولٍ آخر لم يقُلهُ الله لهم في كتابِهِ. وهذا يعني أنهم بدَّلوا دين الله الإسلام الّذي هو دين الإيمان بالله والعمل الصالح بدين آخر باطل لم يُنزل الله تعالى به من سلطان، ففسقوا عن أمر الله فأصبحوا من الظالمين. وبدلاً من أن يدخلوا باب هذه القرية سُجَّدًا أي بتواضع وسلام ومحبة وخير وإحسان، وبدلاً من أن يُقيموا دين الله العدل، أقاموا دينهم الباطل دين الطاغوت الّذي يأمر بالفحشاء والمنكر والبغي، فظلموا وسفكوا الدماء وفسقوا وتكبروا وسيطروا على أهل هذه القرية، وبدلاً من أن يُقيموا فيها الإصلاح، عثوا فيها الفساد.
سُوۡرَةُ البَقَرَة
وَإِذِ ٱسۡتَسۡقَىٰ مُوسَىٰ لِقَوۡمِهِۦ فَقُلۡنَا ٱضۡرِب بِّعَصَاكَ ٱلۡحَجَرَۖ فَٱنفَجَرَتۡ مِنۡهُ ٱثۡنَتَا عَشۡرَةَ عَيۡنًا قَدۡ عَلِمَ ڪُلُّ أُنَاسٍ مَّشۡرَبَهُمۡۖ ڪُلُواْ وَٱشۡرَبُواْ مِن رِّزۡقِ ٱللَّهِ وَلَا تَعۡثَوۡاْ فِى ٱلۡأَرۡضِ مُفۡسِدِينَ (٦٠).
"فَقُلۡنَا ٱضۡرِب بِّعَصَاكَ ٱلۡحَجَرَ": عصا موسى هي كناية عن الصُحُف الّتي أنزلها الله تعالى عليه. "فَٱنفَجَرَتۡ مِنۡهُ ٱثۡنَتَا عَشۡرَةَ عَيۡنًا": العين هي كناية عن دينهم الصحيح الّذي أنزله الله تعالى على أمتهم في السابق وحفظهُ في التوراة لأنه حُرِّف من ءابآئهم. وعلى كل أمة أن تشرب من دينها الصحيح الّذي أعاد الله تعالى تنزيله لموسى بهدف أن يهدي بِهِ إثنتا عشرة أمة مُختلفة في دينها. لذلك قال تعالى: "فَٱنفَجَرَتۡ مِنۡهُ ٱثۡنَتَا عَشۡرَةَ عَيۡنًا"، أي ظهرت منهُ إثنتا عشرةَ أُمَّة. "قَدۡ عَلِمَ ڪُلُّ أُنَاسٍ مَّشۡرَبَهُمۡ"، وهذا يعني أنَّ كل أمَّة علمت مشربها، أي علمت المكان الّذي عليها أن تشرب منه. أي أن كل أمة من قوم موسى كانت تؤمن بدين باطل، علمت عندما استسقى موسى لها، ما هي رسالتها الصحيحة الّتي عليها أن تشرب وتغتسل منها لكي تُطهِّرَ نفسها بها. وهذه الرسالة أنزلها الله تعالى عليها في السابق وحفظها في توراة وصُحُف موسى من بعد أن حُرِّفت.
سُوۡرَةُ البَقَرَة
يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِى ٱلۡأَرۡضِ حَلَـٰلاً طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ ٱلشَّيۡطَـٰنِۚ إِنَّهُ لَكُمۡ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (١٦٨) إِنَّمَا يَأۡمُرُكُم بِٱلسُّوٓءِ وَٱلۡفَحۡشَآءِ وَأَن تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ مَا لَا تَعۡلَمُونَ (١٦٩) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ٱتَّبِعُواْ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ قَالُواْ بَلۡ نَتَّبِعُ مَآ أَلۡفَيۡنَا عَلَيۡهِ ءَابَآءَنَآۗ أَوَلَوۡ كَانَ ءَابَآؤُهُمۡ لَا يَعۡقِلُونَ شَيۡـًٔا وَلَا يَهۡتَدُونَ (١٧٠) وَمَثَلُ ٱلَّذِينَ ڪَفَرُواْ كَمَثَلِ ٱلَّذِى يَنۡعِقُ بِمَا لَا يَسۡمَعُ إِلَّا دُعَآءً وَنِدَآءً صُمُّۢ بُكۡمٌ عُمۡىٌ فَهُمۡ لَا يَعۡقِلُونَ (١٧١) يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ڪُلُواْ مِن طَيِّبَـٰتِ مَا رَزَقۡنَـٰكُمۡ وَٱشۡكُرُواْ لِلَّهِ إِن ڪُنتُمۡ إِيَّاهُ تَعۡبُدُونَ (١٧٢) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيۡڪُمُ ٱلۡمَيۡتَةَ وَٱلدَّمَ وَلَحۡمَ ٱلۡخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ بِهِۦ لِغَيۡرِ ٱللَّهِۖ فَمَنِ ٱضۡطُرَّ غَيۡرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَآ إِثۡمَ عَلَيۡهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (١٧٣) إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكۡتُمُونَ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلۡڪِتَـٰبِ وَيَشۡتَرُونَ بِهِۦ ثَمَنًا قَلِيلاًۙ أُوْلَـٰٓٮِٕكَ مَا يَأۡكُلُونَ فِى بُطُونِهِمۡ إِلَّا ٱلنَّارَ وَلَا يُڪَلِّمُهُمُ ٱللَّهُ يَوۡمَ ٱلۡقِيَـٰمَةِ وَلَا يُزَڪِّيهِمۡ وَلَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٌ (١٧٤) أُوْلَـٰٓٮِٕكَ ٱلَّذِينَ ٱشۡتَرَوُاْ ٱلضَّلَـٰلَةَ بِٱلۡهُدَىٰ وَٱلۡعَذَابَ بِٱلۡمَغۡفِرَةِۚ فَمَآ أَصۡبَرَهُمۡ عَلَى ٱلنَّارِ (١٧٥) ذَالِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ نَزَّلَ ٱلۡڪِتَـٰبَ بِٱلۡحَقِّۗ وَإِنَّ ٱلَّذِينَ ٱخۡتَلَفُواْ فِى ٱلۡكِتَـٰبِ لَفِى شِقَاقِۭ بَعِيدٍ (١٧٦).
إذا تدبّرنا جميع تلك الآيات البينات من آية 168 إلى 176 في سورة البقرة وضربناها ببعضِها، نجد بأنَّ الأكل مِما في الأرض حلالاً طيِّبًا في آية 168 والأكل من طيّباتِ ما رزقنا الله في آية 172: هو الأكل من جميع ما رزقنا الله تعالى من خيرات ونِعم في هذه الأرض ظاهرةً وباطِنةً. وهو كناية عن الأكل من آيات الله وكُتُبِهِ الّتي أنزلها على جميع أنبيائِهِ ورُسُلِهِ وحفظها في القرءان، لأنَّ القرءان هو الّذي يُعطينا من خلال آياتِهِ البيِّنات هذا المعنى الظاهر والباطن لِجميع ما خلقه تعالى لنا ورزقنا إيّاهُ في هذه الأرض. وهو الصيام أي الإمتناع عن اتباع خطوات الشيطان. وهو الإمتناع عن إشراك دين ءابآءنا بدين الله. وهو الإمتناع عن الكفر بالله. وهو الإمتناع عن الأكل والشرب من الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهِلَّ بِهِ لغير الله. يعني الإمتناع عن الأكل والشرب من أحاديث وأقاويل وكُتُب الأحبار والرهبان وأئِمة الكفر والضلالة وعلماء الدين وعلماء غير علماء الدين وجميع الكُتُب والعلوم والأقاويل الّتي اُهِلَّت لغير الله (اُقيمت لغير الله). يعني الإمتناع عن الأكل والشرب من الأديان الباطلة كالدين المسيحي واليهودي والسُّني والشيعي والزردشتي والبوذي وغيرهم من الأديان الأرضية الباطلة. وهو الإمتناع عن كتمان ما أنزل الله عز وجل لنا من الكتاب. وهو الإمتناع عن الاختلافات والتفرقة في كتاب الله ودينه بصناعة أديان باطلة.
سُوۡرَةُ صٓ
وَٱذۡكُرۡ عَبۡدَنَآ أَيُّوبَ إِذۡ نَادَىٰ رَبَّهُ أَنِّى مَسَّنِىَ ٱلشَّيۡطَـٰنُ بِنُصۡبٍ وَعَذَابٍ (٤١) ٱرۡكُضۡ بِرِجۡلِكَۖ هَـٰذَا مُغۡتَسَلُۢ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (٤٢).
الشيطان الّذي مسَّ أيوب هو اتباع أيوب طريق الشر وارتكابه الذنوب والمعاصي. ولذلك عندما نادى أيوب عليه السلام ربَّهُ ولجئ إليه لكي يُخلِّصهُ من النُصُب والعذاب أي من مرضه النفسي الّذي كان يُعاني منه بسبب اتباعه خطوات الشيطان، استجاب الله له واصطفاهُ وجعله نبِيًّا وهداهُ إلى صراطِهِ المُستقيم بالوحي الّذي أوحاهُ إليه والّذي أنزله عليه وأمرهُ أن يقصُدهُ فيغتسِل ويشرب منه بقولِهِ له في آية 42: "ٱرۡكُضۡ بِرِجۡلِكَۖ هَـٰذَا مُغۡتَسَلُۢ بَارِدٌ وَشَرَابٌ". إذًا لقد كان صِيام أيوب هو امتناعه عن الذنوب والمعاصي بواسطة اغتسالِهِ وشربِهِ من كتاب الله الّذي أوحاهُ إليه وأنزله عليه لكي يُطهِّرهُ بِهِ فيتوب.
إنَّ أمر الله تعالى لأيوب عليه السلام في آية 42 بالشرب من كتابِهِ بقوله له: "هذا مُغتسلٌ بارِدٌ وشراب"، هو من أجل أن يريه طريق الحق فيُبعده عن طريق الباطل (الشيطان). هذا يدلنا على أنَّ أمر الله تعالى لنا بالأكل والشرب في آية 187 من سورة البقرة بقوله لنا: "وَكُلُواْ وَٱشۡرَبُواْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ ٱلۡخَيۡطُ ٱلۡأَبۡيَضُ مِنَ ٱلۡخَيۡطِ ٱلۡأَسۡوَدِ مِنَ ٱلۡفَجۡرِۖ"، هو أمرٌ بأن نأكل ونشرب من القرءان لكي نستطيع أن نفرق بين الحق والباطل، فنصوم ونمتنع عن طريق الباطل (الشيطان)، ونتبع طريق الحق (الله). إذًا فالصيام، أي الإمساك عن طريق الشر لا يكون إلاّ بالأكل والشرب من كتاب الله.
سُوۡرَةُ البَقَرَة
وَلَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَالَكُم بَيۡنَكُم بِٱلۡبَـٰطِلِ وَتُدۡلُواْ بِهَآ إِلَى ٱلۡحُڪَّامِ لِتَأۡڪُلُواْ فَرِيقًا مِّنۡ أَمۡوَالِ ٱلنَّاسِ بِٱلۡإِثۡمِ وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ (١٨٨).
في هذه الآية يمنعنا الله عز وجل من أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل ونُدلي بها إلى الحكام لنأكل فريقًا من أموال الناس بالإثم عن سبق إصرار وترصد. إنَّ مالنا هو رزقنا، وهو ما ننفقه على أنفسنا، وهو أيضًا ديننا الّذي يُغنينا عن أي دين آخر، لأنه هو وحده الّذي يستطيع أن يدخلنا الجنة. وإنَّ المعنى المجازي لأكل أموالنا بيننا بالباطل هو كناية عن ضلآلة بعضنا البعض من خلال أخذنا لدين الله بالباطل، أي بالتحريف والتكذيبب والكفر والإشراك، ودفعنا لهذا المال الباطل (الدين الباطل) إلى الحكام (المسؤولين) حتى نأكل فريقًا من أموال الناس بالإثم. هذه الآية تأمرنا أن نصوم أي أن نمتنع عن أكل أموالنا، أي ديننا بيننا بالباطل بحجة أنه دين من عند الله وما هو من عند الله. ولذلك قال تعالى في آية 34 و35 من سورة التوبة:
سُوۡرَةُ التّوبَة
يَـٰٓأَيُّہَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِنَّ ڪَثِيرًا مِّنَ ٱلۡأَحۡبَارِ وَٱلرُّهۡبَانِ لَيَأۡكُلُونَ أَمۡوَالَ ٱلنَّاسِ بِٱلۡبَـٰطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِۗ وَٱلَّذِينَ يَكۡنِزُونَ ٱلذَّهَبَ وَٱلۡفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَہَا فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ فَبَشِّرۡهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (٣٤) يَوۡمَ يُحۡمَىٰ عَلَيۡهَا فِى نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكۡوَىٰ بِہَا جِبَاهُهُمۡ وَجُنُوبُہُمۡ وَظُهُورُهُمۡۖ هَـٰذَا مَا ڪَنَزۡتُمۡ لِأَنفُسِكُمۡ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمۡ تَكۡنِزُونَ (٣٥).
"إِنَّ ڪَثِيرًا مِّنَ ٱلۡأَحۡبَارِ وَٱلرُّهۡبَانِ لَيَأۡكُلُونَ أَمۡوَالَ ٱلنَّاسِ بِٱلۡبَـٰطِلِ" = إنَّ كثيرًا من الأئمة والمفتين وعلماء الدين الإسلامي ليأكلون أموال الناس ودينهم بالباطل.
"وَٱلَّذِينَ يَكۡنِزُونَ ٱلذَّهَبَ وَٱلۡفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَہَا فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ" = يُخبِّؤون ويُخفون الذهب والفضة (المال وكتُبِ الله ورسالآته القيِّمة) ويتركونها لأنفسهم (يُنفقونها فقط على أنفسهم) ويبخلون بها على الناس، فلا يُنفقونها في سبيل الله (في سبيل الحق والعدل والخير والإحسان والبر والتقوى).
لذلك أكمل الله تعالى بقوله: "فَبَشِّرۡهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ، يَوۡمَ يُحۡمَىٰ عَلَيۡهَا فِى نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكۡوَىٰ بِہَا جِبَاهُهُمۡ وَجُنُوبُہُمۡ وَظُهُورُهُمۡۖ هَـٰذَا مَا ڪَنَزۡتُمۡ لِأَنفُسِكُمۡ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمۡ تَكۡنِزُونَ".
سُوۡرَةُ آل عِمرَان
يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَأۡڪُلُواْ ٱلرِّبَوٰٓاْ أَضۡعَـٰفًا مُّضَـٰعَفَةً وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ (١٣٠).
الرّبا هو عكس الزكاة، ويكون باتباع الأديان الباطلة. "أكل الرِّبا" هو أكل أموال الناس بالباطل (ظاهرًا وباطنًا)، أي هو أخذ حق الناس في مالهم (ظاهرًا وباطنًا) وفي دينهم الّذي أنزله الله تعالى عليهم والّذي هو من حقِّهم. وذلك من خلال عدم إعطاء الناس حقَّهم في هذا المال، ومن خلال تحريف هذا الدين وإعطاء الناس دينًا آخرًا مزوَّرًا وباطلاً يودي بهم إلى جهنم، فيُسلب ويُسرق ويُؤكل بذلك حقهم أي مالهم الّذي كان سوف يُطهِّرهم ويُزكيهم ويُدخلهم الجنة في الآخرة. هذه الآية تأمرنا بالصوم أي الامتناع عن أكل الرِّبا (الأديان الباطلة)، وتحثنا على إيتآء الزكواة (دين الله الحق).
سُوۡرَةُ المَائدة
يَـٰٓأَيُّہَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تُحَرِّمُواْ طَيِّبَـٰتِ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكُمۡ وَلَا تَعۡتَدُوٓاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُعۡتَدِينَ (٨٧) وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ حَلَـٰلاً طَيِّبًا وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِىٓ أَنتُم بِهِۦ مُؤۡمِنُونَ (٨٨) لَا يُؤَاخِذُكُمُ ٱللَّهُ بِٱللَّغۡوِ فِىٓ أَيۡمَـٰنِكُمۡ وَلَـٰكِن يُؤَاخِذُڪُم بِمَا عَقَّدتُّمُ ٱلۡأَيۡمَـٰنَۖ فَكَفَّـٰرَتُهُ إِطۡعَامُ عَشَرَةِ مَسَـٰكِينَ مِنۡ أَوۡسَطِ مَا تُطۡعِمُونَ أَهۡلِيكُمۡ أَوۡ كِسۡوَتُهُمۡ أَوۡ تَحۡرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمۡ يَجِدۡ فَصِيَامُ ثَلَـٰثَةِ أَيَّامٍ ذَالِكَ كَفَّـٰرَةُ أَيۡمَـٰنِكُمۡ إِذَا حَلَفۡتُمۡۚ وَٱحۡفَظُوٓاْ أَيۡمَـٰنَكُمۡۚ كَذَالِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمۡ ءَايَـٰتِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ (٨٩).
نجد من خلال تلك الآيات البينات أنَّ الصيام هو امتناعنا عن تحريم طيبات أحلها الله لنا ظاهرةً وباطنةً، أي هو امتناعنا عن تحريم رزق الله وكتبه ورسالاته على المساكين والمحتاجين، الّتي أنزلها على جميع أنبيائِهِ ورُسُلِهِ حتى يُحِلَّها لنا. والصيام هو الأكل من الحلال الطيِّب الّذي أحلَّهُ تعالى لنا، أي هو الأكل من كُتُبِ الله أي من رزقِهِ الحلال. والصيام هو كفّارة عن ذنوب الإنسان الّتي كان يقوم بها سابقًا قبل دخولِهِ في دين الله، وكفارة عن كفره وإشراكِهِ بالله. أي هو كفّارة عن أكلِهِ ممّا حرَّمهُ الله تعالى عليه (الأديان الباطلة). ولذلك عندما دخل في دين الله، وجب عليه أن يصوم أي أن يمتنع عن دينه الباطل فيُكفِّر عن ذنبِهِ بالأكل من دين الله من خلال أعمال البر والإحسان والتقوى الّتي أمره بها الله والّتي هي الحلال الطيِّب، فيكون بذلك يفدي مسكين بنفسه، وبالتالي يفدي نفسه من عذاب جهنم، بالتوبة والامتناع عن فعل السيِّئات الّتي قام بها في السابق، وهذا الفداء يكون بإطعام مسكين، وهو بمثابة كفارة له عمّا تقدَّم من ذنبِهِ وما تأخَّرْ، فيُدخل نفسه بذلك الجنة. وإنَّ كفارة أيماننا (عهدنا) إذا حلفنا (إذا عاهدنا الله) هي تكفير لنا عن ذنوبنا في حال نكثنا عهدنا الّذي عاهدنا الله تعالى عليه في اتباع كتابه وقانونه، ومن ثُمَّ ندمنا ورجعنا عن خطئِنا وتبنا. وهذا التكفير عن الذنب يكون من خلال عمل الخير والإحسان.
إذًا نحنُ نستطيع أن نفدي أنفسنا بصيامنا فنُبدّل سيِّئاتنا إلى حسنات فيغفر الله تعالى لنا ويُدخلنا الجنة. ونحن لسنا بحاجة إلى المسيح لكي يفدينا بنفسه بإهدار دمِهِ على الصليب فدآءً لنا حتى يأخذ خطايانا ويُدخلنا الجنة في الآخرة. ولسنا بحاجة إلى محمد أو غيره لِكَيْ يحمل خطايانا في الآخرة فيشفع لنا ويُدخلنا الجنة ويُخلِّصنا من عذاب جهنم.
سُوۡرَةُ الحِجر
رُّبَمَا يَوَدُّ ٱلَّذِينَ ڪَفَرُواْ لَوۡ كَانُواْ مُسۡلِمِينَ (٢) ذَرۡهُمۡ يَأۡڪُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلۡهِهِمُ ٱلۡأَمَلُۖ فَسَوۡفَ يَعۡلَمُونَ (٣) وَمَآ أَهۡلَكۡنَا مِن قَرۡيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَّعۡلُومٌ (٤) مَّا تَسۡبِقُ مِنۡ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسۡتَـٔۡخِرُونَ (٥).
لقد رفض الّذين كفروا أن يأكلوا من دين الله الحق، لأنهم أرادوا أن يأكلوا من دينهم الباطل ويتمتَّعوا بخيرات هذا الدين. وكان الأمل (دينهم الباطل) يُلهِهِم، لأنَّهُ كان يُأمِّلهم بالشفاعة والخلاص ودخولهم الجنة مهما فعلوا من ذنوب ومعاصي. أي كان دينهم يُأملهم بدخول الجنة حتى ولو لم يصوموا (الصيام الصحيح) ويُطهِّروا أنفسهم ويتوبوا ويمتنعوا عن فعل السيِّئات بفعلهم للحسنات، ولذلك قال الله تعالى لمحمد عليه السلام: "رُّبَمَا يَوَدُّ ٱلَّذِينَ ڪَفَرُواْ لَوۡ كَانُواْ مُسۡلِمِينَ، ذَرۡهُمۡ يَأۡڪُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلۡهِهِمُ ٱلۡأَمَلُۖ فَسَوۡفَ يَعۡلَمُونَ، وَمَآ أَهۡلَكۡنَا مِن قَرۡيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَّعۡلُومٌ، مَّا تَسۡبِقُ مِنۡ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسۡتَـٔۡخِرُونَ".
إذًا وبعد جميع تلك الآيات البينات الّتي ذكرتها لكم، أستطيع أن أعطي تعريفًا للصيام:
الصيام هو أن نأكل ونشرب من القرءان ونداوم على ذلك، حتّى يتبيَّنَ لنا الفرق بين الحق والباطل أي بين الخير والشر، بهدف أن نتَّقي الله، فنمتنع عن فعل الذنوب والمعاصي ونقيم الخير والإصلاح، فنُصبح من الّذين تابوا وآمنوا وعملوا صالحًا ثُمَّ اهتدوا، فيغفر الله لنا.
سُوۡرَةُ طٰه
كُلُواْ مِن طَيِّبَـٰتِ مَا رَزَقۡنَـٰكُمۡ وَلَا تَطۡغَوۡاْ فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيۡكُمۡ غَضَبِىۖ وَمَن يَحۡلِلۡ عَلَيۡهِ غَضَبِى فَقَدۡ هَوَىٰ (٨١) وَإِنِّى لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ صَـٰلِحًا ثُمَّ ٱهۡتَدَىٰ (٨٢).
للأسف، لا يوجد الآن في زمننا الحالي مساجد يذكر فيها إسم الله نستطيع أن نلجئ إليها لتعلم القرءان.
أمّا بالنسبة للمريض أو للّذي على سفر أو للّذي لا يُطيقه (الفقير والمسكين)، فهو لا يستطيع الصِيام لأنَّهُ ليس لديه القدرة عليه أي ليس لديه القدرة والفرصة لتعلم القرءان أو لِإطعام مِسكين أو لِتبليغ رِسالة القرءان. بمعنى أشمَل، إنَّ المريض أو الّذي على سفر أو الّذي لا يُطيقُهُ (كالفقير مثلاً)، لم يجهز بعد لإقامة وتطبيق الصيام. لذلك أعطاهُ الله تعالى الفرصة للصيام (للتوبة والامتناع عن السيِّئات بالرجوع إلى القرءان وبِتطبيقه بفعل الخير) في أيامٍ أُخَرْ، أي في وقتٍ آخر، أو حين يحينُ الوقت المُناسب له للصِيام.
9. ما مفهوم الإسحار الّذي ورد في القرءان الكريم؟
الجواب وتكملة هذا الموضوع (رمضان والصيام) تجدونه في المقالة الثالثة بعنوان: مفهوم رمضان والصيام ظاهراً وباطناً في القرءان الكريم (3).
14 Mar 19, 2016