حقيقة الصلواة: هل هناك خمس صلوات فرض؟ (1)

Raed's picture
Author: Raed / Date: Fri, 02/05/2016 - 15:03 /

 

حقيقة الصلواة: هل هناك خمس صلوات فرض؟ (1)

 

1. المقدمة:

هذه المقالة وجميع مقالات "حقيقة الصلواة" تُبين لنا حقيقة الصلواة من القرءان العظيم. ما معنى الصلواة؟ ما هي حقيقة الصلواة؟ هل هناك صلوات خمس مع عدد ركعاتها وطريقة إقامتها؟ من أين أتت الصلوات الخمس؟ هل الصلواة فرض؟ هل بين الصلواة وعدم الصلواة الكفر؟ هل تارك الصلواة يدخل جهنم؟ إلخ...

في مقالاتي السابقة عن "أسطورة الإسراء والمعراج" أثبتُّ لكم من خلال الآيات البَيِّنات من القرءان الكريم أن قصة الإسراء والمعراج أسطورة خيالية كاذبة. وكذلك أثبتُّ لكم من خلال سورَتَي الإسراء والنجم أن ليلة الإسراء هي ليلة القدر الّتي فيها أُنْزِلَ القرءان على الرسول محمد عليه الصلاة والسلام، وأنَّ الذي لا ينطق عن الهوى هو وحي القرءان الكريم وليس وحي السنة الكاذبة. أما المعراج فليس له أي وجود ولم يُذكر قطعيًا في القرءان العظيم. وبما أنه ليس هنالك أي وجود للمعراج، فبالتالي ليس هنالك أي وجود  للصلوات الخمس. ولكنني لم أنفِ مطلقًا الصلواة، بل على العكس، إنها فعلاً أساس الدين الإسلامي. ولقد فصَّل الله عزَّ وجلّْ لنا كل شيء وأمرنا أن نتبع فقط القرءان، فلماذا لم يذكر لنا القرءان أي شيء عن تلك الصلوات الخمس مع عدد ركعاتها وطريقة إقامتها؟

 

2. تمهيد للموضوع:

يقولون في كتب الأحاديث والسيرة أن الصلواة ليست مُفصَّلة في القرءان، ونحن إذا تدبَّرنا آيات القرءان الكريم نجد وبوضوح تام أنَّ جميع آيات القرءان الكريم تُحدِّثُنا عن الصلواة وإقامتِها، مع تفصيلٍ كامل وشامل لمفهوم ومعنى الصلواة الّتي أرادنا الله تعالى أن نتبعها ونقيمها. 

وكما ذكرت لكم في حلقاتي السابقة عن "ما معنى قرءان" وعن "عدم التفرقة بين الأنبياء والرُسُل" وأيضًا في حلقاتي الأخرى، فإنَّ الله عزَّ وجلّْ قد أعطى جميع الأنبياء والرُسُلْ رسالة واحدة، كي تُصبح جميع الأمم أمة واحدة. وهذا يعني أن الصلواة واحدة لجميع الأمم لأنّه لا وجود لأديان مختلفة. فالدين كما ذكر الله تعالى لنا في القرءان الكريم وفي جميع الكتب السماوية السابقة هو دين واحد أي قانون واحد، إذًا فمن المؤكَّد أن تكون الصلواة واحدة لجميع الأمم ولجميع الناس.

أنا لن أخبركم دفعة واحدة عن معنى الصلواة الّتي أمر الله تعالى جميع الأنبياء والرُسُلْ وجميع الأمم بإقامتها، لأني أريد أن أُظْهِرَ لكم مفهومها ومعناها شيئًا فشيئًا من خلال آيات الذِّكْرِ الحكيم. فأنا أريد وبعون الله سُبحانه وتعالى أن تُعْطيكم وتُبيّن وتُبَرْهِنْ لكم الآيات نفسها بالحجة والمنطق، المفهوم والدليل القاطع للصلواة وإقامتها. وأطلب منكم لِأهمية هذا الموضوع متابعة تلك الآيات البَيِّناتْ المُخْتَصَّة في هذا الشأن بِتَمَعُّنْ وتَفَكُّرْ وتَدَبُّرْ شديد، لِأنها سوف تكون دليلنا الوحيد والقوي والأكيد الذي من خلاله سوف نتوصَّلْ إلى الحقيقة، ألا وهي حقيقة الصلواة وإقامتها في دين الله الإسلام وفقط من القرءان الكريم.

 

3. البرهان الأول:  

منذ عدة سنوات وبينما كنت أدرس القرءان الكريم وقبل معرفتي للمفهوم والمعنى الحقيقي للصلواة وإقامتها، بِظنّي في ذلك الوقت أنَّ الصلواة هي "الخمس صلوات فرض" الّتي نشأتُ وترعرعتُ عليها منذ صِغري، استوقفتني آية في سورة مريم، وكانت هي الباب والنور والرّؤيا الّتي فتحت لي أبوابًا وأنوارًا ورُؤىً كثيرة لآيات أخرى كثيرة. تلك الآية أوضحت وبيَّنت وأكَّدت لي المفهوم الحقيقي للصلواة وإقامتها في القرءان الكريم. لهذا السبب أحببت أن أبدأ معكم من تلك الآية الكريمة. ولكن لكي تستطيعوا أن تتدبّروا معي معناها  وجدتُ أنّه واجبٌ علَيَّ أن أبدأ معكم بتسلسل آيات كثيرة تَسبقها وصولاً إلى تلك الآية الكريمة. وسوف أحاول إن شاء الله وبعون الله أن أُعطي الفكرة والمعنى المنطقي متسلسلاً للوصول إلى معنى تلك الآية. وأنتم إذا أردتم تستطيعون أن تقرأوا بأنفسكم وتتدبروا جميع تلك الآيات في سورة مريم بتسلسل من آية 1 إلى آية 60.

سورة مريم، آية 1 إلى 7، ومن آية 12 إلى 19، ومن  آية 27 إلى 33، ومن آية 41 إلى 43، ومن آية 49 إلى 60:

سُوۡرَةُ مَریَم
بِسۡمِ ٱللهِ ٱلرَّحۡمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ

ڪٓهيعٓصٓ (١) ذِكۡرُ رَحۡمَتِ رَبِّكَ عَبۡدَهُ زَڪَرِيَّآ (٢) إِذۡ نَادَىٰ رَبَّهُ نِدَآءً خَفِيًّ۬ا (٣) قَالَ رَبِّ إِنِّى وَهَنَ ٱلۡعَظۡمُ مِنِّى وَٱشۡتَعَلَ ٱلرَّأۡسُ شَيۡبً۬ا وَلَمۡ أَڪُنۢ بِدُعَآٮِٕكَ رَبِّ شَقِيًّ۬ا (٤) وَإِنِّى خِفۡتُ ٱلۡمَوَالِىَ مِن وَرَآءِى وَڪَانَتِ ٱمۡرَأَتِى عَاقِرً۬ا فَهَبۡ لِى مِن لَّدُنكَ وَلِيًّ۬ا (٥) يَرِثُنِى وَيَرِثُ مِنۡ ءَالِ يَعۡقُوبَ‌ۖ وَٱجۡعَلۡهُ رَبِّ رَضِيًّ۬ا (٦) يَـٰزَڪَرِيَّآ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَـٰمٍ ٱسۡمُهُ يَحۡيَىٰ لَمۡ نَجۡعَل لَّهُ مِن قَبۡلُ سَمِيًّ۬ا (٧) ... (١١) يَـٰيَحۡيَىٰ خُذِ ٱلۡڪِتَـٰبَ بِقُوَّةٍ۬‌ۖ وَءَاتَيۡنَـٰهُ ٱلۡحُكۡمَ صَبِيًّ۬ا (١٢) وَحَنَانً۬ا مِّن لَّدُنَّا وَزَكَوٰةً۬‌ۖ وَكَانَ تَقِيًّ۬ا (١٣) وَبَرَّۢا بِوَالِدَيۡهِ وَلَمۡ يَكُن جَبَّارًا عَصِيًّ۬ا (١٤) وَسَلَـٰمٌ عَلَيۡهِ يَوۡمَ وُلِدَ وَيَوۡمَ يَمُوتُ وَيَوۡمَ يُبۡعَثُ حَيًّ۬ا (١٥) وَٱذۡكُرۡ فِى ٱلۡكِتَـٰبِ مَرۡيَمَ إِذِ ٱنتَبَذَتۡ مِنۡ أَهۡلِهَا مَكَانً۬ا شَرۡقِيًّ۬ا (١٦) فَٱتَّخَذَتۡ مِن دُونِهِمۡ حِجَابً۬ا فَأَرۡسَلۡنَآ إِلَيۡهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرً۬ا سَوِيًّ۬ا (١٧) قَالَتۡ إِنِّىٓ أَعُوذُ بِٱلرَّحۡمَـٰنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّ۬ا (١٨) قَالَ إِنَّمَآ أَنَا۟ رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَـٰمً۬ا زَڪِيًّ۬ا (١٩) ... (٢٦) فَأَتَتۡ بِهِۦ قَوۡمَهَا تَحۡمِلُهُ ۥ‌ۖ قَالُواْ يَـٰمَرۡيَمُ لَقَدۡ جِئۡتِ شَيۡـًٔ۬ا فَرِيًّ۬ا (٢٧) يَـٰٓأُخۡتَ هَـٰرُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ ٱمۡرَأَ سَوۡءٍ۬ وَمَا كَانَتۡ أُمُّكِ بَغِيًّ۬ا (٢٨) فَأَشَارَتۡ إِلَيۡهِ‌ۖ قَالُواْ كَيۡفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِى ٱلۡمَهۡدِ صَبِيًّ۬ا (٢٩) قَالَ إِنِّى عَبۡدُ ٱللَّهِ ءَاتَٮٰنِىَ ٱلۡكِتَـٰبَ وَجَعَلَنِى نَبِيًّ۬ا (٣٠) وَجَعَلَنِى مُبَارَكًا أَيۡنَ مَا ڪُنتُ وَأَوۡصَـٰنِى بِٱلصَّلَوٰةِ وَٱلزَّڪَوٰةِ مَا دُمۡتُ حَيًّ۬ا (٣١) وَبَرَّۢا بِوَالِدَتِى وَلَمۡ يَجۡعَلۡنِى جَبَّارً۬ا شَقِيًّ۬ا (٣٢) وَٱلسَّلَـٰمُ عَلَىَّ يَوۡمَ وُلِدتُّ وَيَوۡمَ أَمُوتُ وَيَوۡمَ أُبۡعَثُ حَيًّ۬ا (٣٣) ... (٤٠) وَٱذۡكُرۡ فِى ٱلۡكِتَـٰبِ إِبۡرَاهِيمَ‌ۚ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقً۬ا نَّبِيًّا (٤١) إِذۡ قَالَ لِأَبِيهِ يَـٰٓأَبَتِ لِمَ تَعۡبُدُ مَا لَا يَسۡمَعُ وَلَا يُبۡصِرُ وَلَا يُغۡنِى عَنكَ شَيۡـًٔ۬ا (٤٢) يَـٰٓأَبَتِ إِنِّى قَدۡ جَآءَنِى مِنَ ٱلۡعِلۡمِ مَا لَمۡ يَأۡتِكَ فَٱتَّبِعۡنِىٓ أَهۡدِكَ صِرَاطً۬ا سَوِيًّ۬ا (٤٣) ... (٤٨) فَلَمَّا ٱعۡتَزَلَهُمۡ وَمَا يَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَهَبۡنَا لَهُ إِسۡحَـٰقَ وَيَعۡقُوبَ‌ۖ وَكُلاًّ۬ جَعَلۡنَا نَبِيًّ۬ا (٤٩) وَوَهَبۡنَا لَهُم مِّن رَّحۡمَتِنَا وَجَعَلۡنَا لَهُمۡ لِسَانَ صِدۡقٍ عَلِيًّ۬ا (٥٠) وَٱذۡكُرۡ فِى ٱلۡكِتَـٰبِ مُوسَىٰٓ‌ۚ إِنَّهُ كَانَ مُخۡلَصً۬ا وَكَانَ رَسُولاً۬ نَّبِيًّ۬ا (٥١) وَنَـٰدَيۡنَـٰهُ مِن جَانِبِ ٱلطُّورِ ٱلۡأَيۡمَنِ وَقَرَّبۡنَـٰهُ نَجِيًّ۬ا (٥٢) وَوَهَبۡنَا لَهُ مِن رَّحۡمَتِنَآ أَخَاهُ هَـٰرُونَ نَبِيًّ۬ا (٥٣) وَٱذۡكُرۡ فِى ٱلۡكِتَـٰبِ إِسۡمَـٰعِيلَ‌ۚ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ ٱلۡوَعۡدِ وَكَانَ رَسُولاً۬ نَّبِيًّ۬ا (٥٤) وَكَانَ يَأۡمُرُ أَهۡلَهُ بِٱلصَّلَوٰةِ وَٱلزَّكَوٰةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِۦ مَرۡضِيًّ۬ا (٥٥) وَٱذۡكُرۡ فِى ٱلۡكِتَـٰبِ إِدۡرِيسَ‌ۚ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقً۬ا نَّبِيًّ۬ا (٥٦) وَرَفَعۡنَـٰهُ مَكَانًا عَلِيًّا (٥٧) أُوْلَـٰٓٮِٕكَ ٱلَّذِينَ أَنۡعَمَ ٱللَّهُ عَلَيۡہِم مِّنَ ٱلنَّبِيِّـۧنَ مِن ذُرِّيَّةِ ءَادَمَ وَمِمَّنۡ حَمَلۡنَا مَعَ نُوحٍ۬ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبۡرَاهِيمَ وَإِسۡرَاءِيلَ وَمِمَّنۡ هَدَيۡنَا وَٱجۡتَبَيۡنَآ‌ۚ إِذَا تُتۡلَىٰ عَلَيۡهِمۡ ءَايَـٰتُ ٱلرَّحۡمَـٰنِ خَرُّواْ سُجَّدً۬ا وَبُكِيًّ۬ا (٥٨) فَخَلَفَ مِنۢ بَعۡدِهِمۡ خَلۡفٌ أَضَاعُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَٱتَّبَعُواْ ٱلشَّہَوَاتِ‌ۖ فَسَوۡفَ يَلۡقَوۡنَ غَيًّا (٥٩) إِلَّا مَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ صَـٰلِحً۬ا فَأُوْلَـٰٓٮِٕكَ يَدۡخُلُونَ ٱلۡجَنَّةَ وَلَا يُظۡلَمُونَ شَيۡـًٔ۬ا (٦٠).

من آية 1 إلى آية 57 ذكر الله عز وجل لنا زكريا ويحي، مريم وعيسى، إبراهيم، إسحاق ويعقوب، موسى وهارون، إسماعيل، إدريس. وفي آية 58 قال الله تعالى: "أُوْلَـٰٓٮِٕكَ ٱلَّذِينَ أَنۡعَمَ ٱللَّهُ عَلَيۡہِم مِّنَ ٱلنَّبِيِّـۧنَ مِن ذُرِّيَّةِ ءَادَمَ وَمِمَّنۡ حَمَلۡنَا مَعَ نُوحٍ۬ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبۡرَاهِيمَ وَإِسۡرَاءِيلَ وَمِمَّنۡ هَدَيۡنَا وَٱجۡتَبَيۡنَآ‌ۚ إِذَا تُتۡلَىٰ عَلَيۡهِمۡ ءَايَـٰتُ ٱلرَّحۡمَـٰنِ خَرُّواْ سُجَّدً۬ا وَبُكِيًّ۬ا". وقال الله تعالى في آية 59: "فَخَلَفَ مِنۢ بَعۡدِهِمۡ خَلۡفٌ أَضَاعُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَٱتَّبَعُواْ ٱلشَّہَوَاتِ‌ۖ فَسَوۡفَ يَلۡقَوۡنَ غَيًّا". هذه هي الآية الّتي استوقفتني وجعلتني أطرح تساؤلات عديدة:

● أولاً، ما هو الرابط ما بين إضاعة الصلواة واتباع الشهوات؟ لقد أعطتني هذه الآية الدليل على أنَّ الصلواة والشهوات هما نقيضين لا يُمكِن ولا بِشَكْلٍ من الأشكال أن يلتقيان، فالصلواة هي عكس الشهوات. ولقد أعطانا الله تعالى مثلاً للشهوات من خلال آية 14 و15 من سورة آل عمران:

سُوۡرَةُ آل عِمرَان
زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ ٱلشَّهَوَاتِ مِنَ ٱلنِّسَآءِ وَٱلۡبَنِينَ وَٱلۡقَنَـٰطِيرِ ٱلۡمُقَنطَرَةِ مِنَ ٱلذَّهَبِ وَٱلۡفِضَّةِ وَٱلۡخَيۡلِ ٱلۡمُسَوَّمَةِ وَٱلۡأَنۡعَـٰمِ وَٱلۡحَرۡثِ‌ۗ ذَالِكَ مَتَـٰعُ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا‌ۖ وَٱللَّهُ عِندَهُ حُسۡنُ ٱلۡمَـَٔابِ (١٤) قُلۡ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيۡرٍ مِّن ذَالِڪُمۡ‌ۚ لِلَّذِينَ ٱتَّقَوۡاْ عِندَ رَبِّهِمۡ جَنَّـٰتٌ۬ تَجۡرِى مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَـٰرُ خَـٰلِدِينَ فِيهَا وَأَزۡوَاجٌ۬ مُّطَهَّرَةٌ۬ وَرِضۡوَانٌ۬ مِّنَ ٱللَّهِ‌ۗ وَٱللَّهُ بَصِيرُۢ بِٱلۡعِبَادِ (١٥).

سُوۡرَةُ مَریَم​
فَخَلَفَ مِنۢ بَعۡدِهِمۡ خَلۡفٌ أَضَاعُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَٱتَّبَعُواْ ٱلشَّہَوَاتِ‌ۖ فَسَوۡفَ يَلۡقَوۡنَ غَيًّا (٥٩) إِلَّا مَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ صَـٰلِحً۬ا فَأُوْلَـٰٓٮِٕكَ يَدۡخُلُونَ ٱلۡجَنَّةَ وَلَا يُظۡلَمُونَ شَيۡـًٔ۬ا (٦٠)

ولقد أعطتني آية 59 من سورة مريم أيضًا المعنى الحقيقي لإضاعة الصلواة. إنَّ إضاعة الصلواة تعني بل هي نفسها اتباع الشهوات، لأنَّ الّذي أضاع الصلواة بالتأكيد أضاعها بسبب اتباعه للشهوات، من أجل ذلك ربط الله عز وجل لنا إضاعة الصلواة باتباع الشهوات. السؤال الّذي يطرح نفسه هو: هل كُل من لا يُصلي الصلوات الخمس يكون يتبع الشهوات؟ أو هل الّذي يُصَلِّي الصلوات الخمس يكون لا يتبع الشهوات؟ وكما ذكر الله تعالى لنا في آية 59 من سورة مريم، فإنَّ الصلواة والشهوات هُما نقيضين لا يُمكِن ولا بشكل من الأشكال أن يلتقيان، فإمّا الصلواة وإمّا الشهوات. وكما أخبرنا الله عزَّ وجلّْ في القرءان الكريم، فإمّا الخير وإمّا الشَّرْ. وكما أخبرنا تعالى أيضًا في آية 14 و15 من سورة آل عمران، فإمّا حياة الدنيا باتِّباعِ الشهوات وإمّا حياة الآخرة بإيماننا الصادق وتقوانا لله عز وجل، أي إمّا جهنم وإمّا الجنة.

● ثانيًا، إذا تدبَّرنا آية 1 وصولاً إلى آية 58 في سورة مريم:

سُوۡرَةُ مَریَم
ڪٓهيعٓصٓ (١) ذِكۡرُ رَحۡمَتِ رَبِّكَ عَبۡدَهُ زَڪَرِيَّآ (٢) إِذۡ نَادَىٰ رَبَّهُ نِدَآءً خَفِيًّ۬ا (٣) قَالَ رَبِّ إِنِّى وَهَنَ ٱلۡعَظۡمُ مِنِّى وَٱشۡتَعَلَ ٱلرَّأۡسُ شَيۡبً۬ا وَلَمۡ أَڪُنۢ بِدُعَآٮِٕكَ رَبِّ شَقِيًّ۬ا (٤) وَإِنِّى خِفۡتُ ٱلۡمَوَالِىَ مِن وَرَآءِى وَڪَانَتِ ٱمۡرَأَتِى عَاقِرً۬ا فَهَبۡ لِى مِن لَّدُنكَ وَلِيًّ۬ا (٥) يَرِثُنِى وَيَرِثُ مِنۡ ءَالِ يَعۡقُوبَ‌ۖ وَٱجۡعَلۡهُ رَبِّ رَضِيًّ۬ا (٦) يَـٰزَڪَرِيَّآ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَـٰمٍ ٱسۡمُهُ يَحۡيَىٰ لَمۡ نَجۡعَل لَّهُ مِن قَبۡلُ سَمِيًّ۬ا (٧) ... (١١) يَـٰيَحۡيَىٰ خُذِ ٱلۡڪِتَـٰبَ بِقُوَّةٍ۬‌ۖ وَءَاتَيۡنَـٰهُ ٱلۡحُكۡمَ صَبِيًّ۬ا (١٢) وَحَنَانً۬ا مِّن لَّدُنَّا وَزَكَوٰةً۬‌ۖ وَكَانَ تَقِيًّ۬ا (١٣) وَبَرَّۢا بِوَالِدَيۡهِ وَلَمۡ يَكُن جَبَّارًا عَصِيًّ۬ا (١٤) وَسَلَـٰمٌ عَلَيۡهِ يَوۡمَ وُلِدَ وَيَوۡمَ يَمُوتُ وَيَوۡمَ يُبۡعَثُ حَيًّ۬ا (١٥) وَٱذۡكُرۡ فِى ٱلۡكِتَـٰبِ مَرۡيَمَ إِذِ ٱنتَبَذَتۡ مِنۡ أَهۡلِهَا مَكَانً۬ا شَرۡقِيًّ۬ا (١٦) فَٱتَّخَذَتۡ مِن دُونِهِمۡ حِجَابً۬ا فَأَرۡسَلۡنَآ إِلَيۡهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرً۬ا سَوِيًّ۬ا (١٧) قَالَتۡ إِنِّىٓ أَعُوذُ بِٱلرَّحۡمَـٰنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّ۬ا (١٨) قَالَ إِنَّمَآ أَنَا۟ رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَـٰمً۬ا زَڪِيًّ۬ا (١٩)... (٢٦) فَأَتَتۡ بِهِۦ قَوۡمَهَا تَحۡمِلُهُ ۥ‌ۖ قَالُواْ يَـٰمَرۡيَمُ لَقَدۡ جِئۡتِ شَيۡـًٔ۬ا فَرِيًّ۬ا (٢٧) يَـٰٓأُخۡتَ هَـٰرُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ ٱمۡرَأَ سَوۡءٍ۬ وَمَا كَانَتۡ أُمُّكِ بَغِيًّ۬ا (٢٨) فَأَشَارَتۡ إِلَيۡهِ‌ۖ  قَالُواْ كَيۡفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِى ٱلۡمَهۡدِ صَبِيًّ۬ا (٢٩) قَالَ إِنِّى عَبۡدُ ٱللَّهِ ءَاتَٮٰنِىَ ٱلۡكِتَـٰبَ وَجَعَلَنِى نَبِيًّ۬ا (٣٠) وَجَعَلَنِى مُبَارَكًا أَيۡنَ مَا ڪُنتُ وَأَوۡصَـٰنِى بِٱلصَّلَوٰةِ وَٱلزَّڪَوٰةِ مَا دُمۡتُ حَيًّ۬ا (٣١) وَبَرَّۢا بِوَالِدَتِى وَلَمۡ يَجۡعَلۡنِى جَبَّارً۬ا شَقِيًّ۬ا (٣٢) وَٱلسَّلَـٰمُ عَلَىَّ يَوۡمَ وُلِدتُّ وَيَوۡمَ أَمُوتُ وَيَوۡمَ أُبۡعَثُ حَيًّ۬ا (٣٣)... (٤٠) وَٱذۡكُرۡ فِى ٱلۡكِتَـٰبِ إِبۡرَاهِيمَ‌ۚ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقً۬ا نَّبِيًّا (٤١) إِذۡ قَالَ لِأَبِيهِ يَـٰٓأَبَتِ لِمَ تَعۡبُدُ مَا لَا يَسۡمَعُ وَلَا يُبۡصِرُ وَلَا يُغۡنِى عَنكَ شَيۡـًٔ۬ا (٤٢) يَـٰٓأَبَتِ إِنِّى قَدۡ جَآءَنِى مِنَ ٱلۡعِلۡمِ مَا لَمۡ يَأۡتِكَ فَٱتَّبِعۡنِىٓ أَهۡدِكَ صِرَاطً۬ا سَوِيًّ۬ا (٤٣)... (٤٨) فَلَمَّا ٱعۡتَزَلَهُمۡ وَمَا يَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَهَبۡنَا لَهُ إِسۡحَـٰقَ وَيَعۡقُوبَ‌ۖ وَكُلاًّ۬ جَعَلۡنَا نَبِيًّ۬ا (٤٩) وَوَهَبۡنَا لَهُم مِّن رَّحۡمَتِنَا وَجَعَلۡنَا لَهُمۡ لِسَانَ صِدۡقٍ عَلِيًّ۬ا (٥٠) وَٱذۡكُرۡ فِى ٱلۡكِتَـٰبِ مُوسَىٰٓ‌ۚ إِنَّهُ كَانَ مُخۡلَصً۬ا وَكَانَ رَسُولاً۬ نَّبِيًّ۬ا (٥١) وَنَـٰدَيۡنَـٰهُ مِن جَانِبِ ٱلطُّورِ ٱلۡأَيۡمَنِ وَقَرَّبۡنَـٰهُ نَجِيًّ۬ا (٥٢) وَوَهَبۡنَا لَهُ مِن رَّحۡمَتِنَآ أَخَاهُ هَـٰرُونَ نَبِيًّ۬ا (٥٣) وَٱذۡكُرۡ فِى ٱلۡكِتَـٰبِ إِسۡمَـٰعِيلَ‌ۚ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ ٱلۡوَعۡدِ وَكَانَ رَسُولاً۬ نَّبِيًّ۬ا (٥٤) وَكَانَ يَأۡمُرُ أَهۡلَهُ بِٱلصَّلَوٰةِ وَٱلزَّكَوٰةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِۦ مَرۡضِيًّ۬ا (٥٥) وَٱذۡكُرۡ فِى ٱلۡكِتَـٰبِ إِدۡرِيسَ‌ۚ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقً۬ا نَّبِيًّ۬ا (٥٦) وَرَفَعۡنَـٰهُ مَكَانًا عَلِيًّا (٥٧) أُوْلَـٰٓٮِٕكَ ٱلَّذِينَ أَنۡعَمَ ٱللَّهُ عَلَيۡہِم مِّنَ ٱلنَّبِيِّـۧنَ مِن ذُرِّيَّةِ ءَادَمَ وَمِمَّنۡ حَمَلۡنَا مَعَ نُوحٍ۬ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبۡرَاهِيمَ وَإِسۡرَاءِيلَ وَمِمَّنۡ هَدَيۡنَا وَٱجۡتَبَيۡنَآ‌ۚ إِذَا تُتۡلَىٰ عَلَيۡهِمۡ ءَايَـٰتُ ٱلرَّحۡمَـٰنِ خَرُّواْ سُجَّدً۬ا وَبُكِيًّ۬ا (٥٨) فَخَلَفَ مِنۢ بَعۡدِهِمۡ خَلۡفٌ أَضَاعُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَٱتَّبَعُواْ ٱلشَّہَوَاتِ‌ۖ فَسَوۡفَ يَلۡقَوۡنَ غَيًّا (٥٩) إِلَّا مَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ صَـٰلِحً۬ا فَأُوْلَـٰٓٮِٕكَ يَدۡخُلُونَ ٱلۡجَنَّةَ وَلَا يُظۡلَمُونَ شَيۡـًٔ۬ا (٦٠).

نجد قول الله عز وجل في بداية آية 58: "أولآئك الّذين أنعم الله عليهم من النبِيّن"، ولقد شمل الله في تلك الآية جميع الأنبياء والرُّسُل الّذين ذكرهم في بداية سورة مريم من آية 1 وصولاً إلى هذه الآية (آية 58). ونحن إذا أكملنا الآية: "مِن ذُرِّيَّةِ ءَادَمَ وَمِمَّنۡ حَمَلۡنَا مَعَ نُوحٍ۬ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبۡرَاهِيمَ وَإِسۡرَاءِيلَ وَمِمَّنۡ هَدَيۡنَا وَٱجۡتَبَيۡنَآ‌ۚ"، نجد أنَّ الله تعالى شمل فيها أيضًا وبشكل عام جميع الأنبياء والرُّسُلْ والمؤمنين. إذًا فإنَّ الخَلَفْ الّذي خَلَفَ من بعد هؤلاء الأنبياء والرُسُلْ في آية 59 هُمْ جميع الأمم السابقة الّتي أرسل الله عز وجل إليهم الأنبياء والرسل. وهُمْ الّذين خلفوا هؤلاء الأنبياء والرُّسُلْ ووَرِثوا الكتاب عبر الزمن إلى حين نزول القرءان، وصنعوا أديانًا باطلة وأضاعوا دين الله وكتابه الحق. وهُمْ الّذين أضاعوا الصلواة واتبعوا الشهوات.

لقد علمني الله عز وجل أمرًا مُهِمًا جدًا من خلال آية 59 أنَّ إضاعة الصلواة هي إضاعة كتاب الله أي إضاعة دين الله الحق، وأنَّ اتبعاع الشهوات هو اتباع كُتُبْ أحاديث وأقاويل وتفاسير باطلة أتت من بَشَرٍ بِحجَّة أنها أتت من عند الله. بمعنى أصحّْ، إنَّ اتِّباع الشهوات هو اتباع الأديان المُختلفة المصنوعة من البشر بحجة أنها من عند الله، لأنها تسمح لكل إنسان يؤمن ويدخل فيها أن يفعل ما يشاء في هذه الأرض من ظلم وفساد من دون أن يُعاقب على أعماله السيئة في الآخرة لأنه سوف يُشفع لهُ، ومن دون أن يكون له العذاب في الآخرة.

● ثالثًا، إذا كان الله عز وجل بزعم جميع الأديان الكاذبة قد أمر كل أمة بعث إليها بنبِيٍّ أو برسول بصلواة مختلفة عن الأمة الأخرى، فلماذا وضع الله تعالى لنا في آية 59 كلمة "الصلواة" بصيغة المُفْرَدْ بدليل قوله "أضاعوا الصلواة" ولم يضعها لنا بصيغة الجمع بقوله مثلاً "أضاعوا الصلوات". وبما أنَّ الدين وكما أخبرنا الله في جميع آياتِهِ واحد، فإنَّ هذه الآية (آية 59) أعطتني الدليل على أن الصلواة واحدة لجميع الأنبياء والرُّسُلْ ولجميع الأمم، ولذلك ذكر الله لنا من آية 1 وصولاً لآية 58 أنبيائِهِ ورُسُلِهِ (زكريا ويحيى وعيسى ومريم وإبراهيم وإسحاق ويعقوب وموسى وهارون وإسماعيل وإدريس) لِكَي يُعْلِمنا أن جميع هؤلآء الأنبياء والرُسُل كانوا يدعون قومهم ويأمرونهم  بالصلواة وإقامتها، ولكي يُعلمنا تعالى أنَّ جميع هؤلآء الأنبياء والرُسُل الّذين ذكرهم تعالى في سورة مريم قد أقاموا نفس الصلواة لِقومِهِم، ألا وهي دعوة قومهم إلى السجود لِآياتِ الرَّحمن، أي إلى السجود لِكتاب الله، ولذلك أكمل الله تعالى جميع تلك الآيات الّتي ذكرتها لكم (من آية 1 إلى 57) بآية 58 بقوله فيها: "إِذَا تُتۡلَىٰ عَلَيۡهِمۡ ءَايَـٰتُ ٱلرَّحۡمَـٰنِ خَرُّواْ سُجَّدً۬ا وَبُكِيًّ۬ا"، وأكمل بعدها مباشرة قوله في الآية الّتي تليها (آية 59): "فَخَلَفَ مِنۢ بَعۡدِهِمۡ خَلۡفٌ أَضَاعُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَٱتَّبَعُواْ ٱلشَّہَوَاتِ‌ۖ". إذًا فإنَّ الخلف الّذين أَضَاعُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَٱتَّبَعُواْ ٱلشَّہَوَاتِ‌ هُم الخلف الّذين لم يخروا لِآيَـٰتِ ٱلرَّحۡمَـٰنِ سُجدًا وبُكِيًّا، أي هُم الخلف الّذين أضاعوا ءَايَـٰتُ ٱلرَّحۡمَـٰنِ أي أضاعوا كتاب الله (القرءان الكريم) ودينه. إذًا فالصلواة هي ءَايَـٰتُ ٱلرَّحۡمَـٰنِ أي هي القرءان الكريم.

● رابعًا، عندما قرأت آية 59 وآية 60، وجدت فيهما دليلاً قويًا وتأكيدًا لِلمعنى الحقيقي للصلواة. في آية 59 أخبرنا الله تعالى أنَّ "الّذين أضاعوا الصلواة واتبعوا الشهوات فسوف يُلْقَوْنَ غيًا" أي فسوف يدخُلون جهنَّم. أمّا في آية 60 فقد استثنى الله عز وجل الّذي تاب وآمن وعمل صالحًا، "فأولآئِكَ يدخلون الجنة ولا يُظْلَمون شَيْئًا". إذًا فالإنسان الّذي لا يُضيع الصلواة هو الإنسان الّذي يتوب عن الشهوات ويؤمن بالله ويعمل صالحًا، أي هو الإنسان الّذي يُبَدِّلُ سَيِّئآته إلى حسنات، ولذلك أكمل الله تعالى آية 59 بآية 60، ووضع في بداية آية 60 أداة الشرط والإستثناء "إلاَّ" لِكَيْ يٌخبِرنا أنَّ إقامة الصلواة لا تكون "إلاَّ" بالتّوبة والإيمان والعمل الصالح، ولا تكون بالصلوات الخمس فرض مع عدد ركعاتها وطريقة إقامتها. فالتوبة والإيمان والعمل الصالح هُمْ الطريق الوحيد الّذي نستطيع بواسطته أن نُطَهِّرَ أنفُسنا ونفوز بالجنة، وليست الصلوات الخمس هي الّتي تُطَهِّرُنا فتُعطينا الحسنات وتُبْعِدُنا عن الشَهوات.

 

4. البرهان الثاني:  

إذا تابعنا آيات سورة الأعراف من آية 59 إلى آية 170 نجد كيف بعث الله تعالى الأنبياء والرُّسُلْ رسولاً تِلْوَ الآخر عبر الزمن، من نوح إلى موسى وهارون إلى أمم كثيرة من بعد موسى وهارون وصولاً إلى الّذين ورِثوا الكتاب من بعدِهِمْ أي إلى حين نزول القرءان. وأنا لن أذكر في مقالتي هذه جميع تلك الآيات لأنها كثيرة وسوف أكتفي بذكر ثلاثة آيات فقط. وإذا أحببتم مُتابعة جميع تلك الآيات فأنتم تستطيعون أن تقرأوها بتدبر في القرءان الكريم.

سورة الأعراف، من آية 168 إلى 170:

سُوۡرَةُ الاٴعرَاف
وَقَطَّعۡنَـٰهُمۡ فِى ٱلۡأَرۡضِ أُمَمً۬ا‌ۖ مِّنۡهُمُ ٱلصَّـٰلِحُونَ وَمِنۡہُمۡ دُونَ ذَالِكَ‌ۖ وَبَلَوۡنَـٰهُم بِٱلۡحَسَنَـٰتِ وَٱلسَّيِّـَٔاتِ لَعَلَّهُمۡ يَرۡجِعُونَ (١٦٨) فَخَلَفَ مِنۢ بَعۡدِهِمۡ خَلۡفٌ۬ وَرِثُواْ ٱلۡكِتَـٰبَ يَأۡخُذُونَ عَرَضَ هَـٰذَا ٱلۡأَدۡنَىٰ وَيَقُولُونَ سَيُغۡفَرُ لَنَا وَإِن يَأۡتِہِمۡ عَرَضٌ۬ مِّثۡلُهُ يَأۡخُذُوهُ‌ۚ أَلَمۡ يُؤۡخَذۡ عَلَيۡہِم مِّيثَـٰقُ ٱلۡكِتَـٰبِ أَن لَّا يَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ إِلَّا ٱلۡحَقَّ وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ‌ۗ وَٱلدَّارُ ٱلۡأَخِرَةُ خَيۡرٌ۬ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ‌ۗ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ (١٦٩) وَٱلَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِٱلۡكِتَـٰبِ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجۡرَ ٱلۡمُصۡلِحِينَ (١٧٠).

في آية 169 من سورة الأعراف نجد أن الّذين ورِثوا كتاب الله، بدلاً من أن يأخذوه لكي يُطهِّرُهُم ويَرْفعهم مكانًا عَلِيًّا أي يرفعهم إلى جنة الآخرة، فهُمْ "يأخذون عرض هذا الأدنى" أي يأخذون كتابًا آخرًا بدلاً من كتاب الله فيَهبِط بِهِم إلى الأرض أي إلى الأدنى الّذي هو حُبّْ الشهوات من أجل التمتع بالحياة الدنيا وتفضيلها على الآخرة. ويقولون في كتابهم هذا (كُتُبِهِم الباطلة ودينهم الباطل) بأنه سَيُغفرُ لهُم، أي أنه سوف تكون لهم شفاعة وخلاص وسوف يدخلون الجنة مهما فعلوا من ذنوب. ولذلك أكمل الله تعالى تلك الآية بقولِهِ لهُمْ: "أَلَمۡ يُؤۡخَذۡ عَلَيۡہِم مِّيثَـٰقُ ٱلۡكِتَـٰبِ أَن لَّا يَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ إِلَّا ٱلۡحَقَّ وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ‌ۗ وَٱلدَّارُ ٱلۡأَخِرَةُ خَيۡرٌ۬ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ‌ۗ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ". 

بمعنىً أصَحّْ، "يأخذون عرض هذا الأدنى" أي يأخذون ظاهرًا من الحياة الدنيا وينسون الآخرة، كما أخبرنا الله تعالى في آية 7 من سورة الروم. وإذا قارنا هذه الآية (آية 7) من سورة الروم بآية 169 من سورة الأعراف نجد تشابهًا بينهما:

سُوۡرَةُ الرُّوم
يَعۡلَمُونَ ظَـٰهِرًا مِّنَ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَهُمۡ عَنِ ٱلۡأَخِرَةِ هُمۡ غَـٰفِلُونَ (٧).

سُوۡرَةُ الاٴعرَاف
فَخَلَفَ مِنۢ بَعۡدِهِمۡ خَلۡفٌ۬ وَرِثُواْ ٱلۡكِتَـٰبَ يَأۡخُذُونَ عَرَضَ هَـٰذَا ٱلۡأَدۡنَىٰ وَيَقُولُونَ سَيُغۡفَرُ لَنَا وَإِن يَأۡتِہِمۡ عَرَضٌ۬ مِّثۡلُهُ يَأۡخُذُوهُ‌ۚ أَلَمۡ يُؤۡخَذۡ عَلَيۡہِم مِّيثَـٰقُ ٱلۡكِتَـٰبِ أَن لَّا يَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ إِلَّا ٱلۡحَقَّ وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ‌ۗ وَٱلدَّارُ ٱلۡأَخِرَةُ خَيۡرٌ۬ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ‌ۗ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ (١٦٩).

ولذلك أكمل الله تعالى آياته في سورة الأعراف بقوله في الآيات القادمة، من آية 172 إلى 177:

سُوۡرَةُ الاٴعرَاف
وَإِذۡ أَخَذَ رَبُّكَ مِنۢ بَنِىٓ ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمۡ ذُرِّيَّتَہُمۡ وَأَشۡہَدَهُمۡ عَلَىٰٓ أَنفُسِہِمۡ أَلَسۡتُ بِرَبِّكُمۡ‌ۖ قَالُواْ بَلَىٰ‌ۛ شَهِدۡنَآ‌ۛ أَن تَقُولُواْ يَوۡمَ ٱلۡقِيَـٰمَةِ إِنَّا ڪُنَّا عَنۡ هَـٰذَا غَـٰفِلِينَ (١٧٢) أَوۡ تَقُولُوٓاْ إِنَّمَآ أَشۡرَكَ ءَابَآؤُنَا مِن قَبۡلُ وَڪُنَّا ذُرِّيَّةً۬ مِّنۢ بَعۡدِهِمۡ‌ۖ أَفَتُہۡلِكُنَا بِمَا فَعَلَ ٱلۡمُبۡطِلُونَ (١٧٣) وَكَذَالِكَ نُفَصِّلُ ٱلۡأَيَـٰتِ وَلَعَلَّهُمۡ يَرۡجِعُونَ (١٧٤) وَٱتۡلُ عَلَيۡهِمۡ نَبَأَ ٱلَّذِىٓ ءَاتَيۡنَـٰهُ ءَايَـٰتِنَا فَٱنسَلَخَ مِنۡهَا فَأَتۡبَعَهُ ٱلشَّيۡطَـٰنُ فَكَانَ مِنَ ٱلۡغَاوِينَ (١٧٥) وَلَوۡ شِئۡنَا لَرَفَعۡنَـٰهُ بِہَا وَلَـٰكِنَّهُ أَخۡلَدَ إِلَى ٱلۡأَرۡضِ وَٱتَّبَعَ هَوَٮٰهُ‌ۚ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ ٱلۡڪَلۡبِ إِن تَحۡمِلۡ عَلَيۡهِ يَلۡهَثۡ أَوۡ تَتۡرُڪۡهُ يَلۡهَث‌ۚ ذَّالِكَ مَثَلُ ٱلۡقَوۡمِ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِـَٔايَـٰتِنَا‌ۚ فَٱقۡصُصِ ٱلۡقَصَصَ لَعَلَّهُمۡ يَتَفَكَّرُونَ (١٧٦) سَآءَ مَثَلاً ٱلۡقَوۡمُ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِـَٔايَـٰتِنَا وَأَنفُسَہُمۡ كَانُواْ يَظۡلِمُونَ (١٧٧).

وإذا قارنّا تلك الآيات آية 172 و175 و176 و177 بآية 168 و169، نجد بينهم تشابهًا كبيرًا وتطابقًا في المعنى يؤكد ما ذكرتُهُ:

سُوۡرَةُ الاٴعرَاف
وَقَطَّعۡنَـٰهُمۡ فِى ٱلۡأَرۡضِ أُمَمً۬ا‌ۖ مِّنۡهُمُ ٱلصَّـٰلِحُونَ وَمِنۡہُمۡ دُونَ ذَالِكَ‌ۖ وَبَلَوۡنَـٰهُم بِٱلۡحَسَنَـٰتِ وَٱلسَّيِّـَٔاتِ لَعَلَّهُمۡ يَرۡجِعُونَ (١٦٨) فَخَلَفَ مِنۢ بَعۡدِهِمۡ خَلۡفٌ۬ وَرِثُواْ ٱلۡكِتَـٰبَ يَأۡخُذُونَ عَرَضَ هَـٰذَا ٱلۡأَدۡنَىٰ وَيَقُولُونَ سَيُغۡفَرُ لَنَا وَإِن يَأۡتِہِمۡ عَرَضٌ۬ مِّثۡلُهُ يَأۡخُذُوهُ‌ۚ أَلَمۡ يُؤۡخَذۡ عَلَيۡہِم مِّيثَـٰقُ ٱلۡكِتَـٰبِ أَن لَّا يَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ إِلَّا ٱلۡحَقَّ وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ‌ۗ وَٱلدَّارُ ٱلۡأَخِرَةُ خَيۡرٌ۬ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ‌ۗ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ (١٦٩).

استطراد: أما قول الله تعالى في آية 172: "وَإِذۡ أَخَذَ رَبُّكَ مِنۢ بَنِىٓ ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمۡ ذُرِّيَّتَہُمۡ" فهو لا يعني كما تقول التفاسير الباطلة أنَّ الله "خلق حواء من ضلع آدم".

  1. فأولاً، نجد بأن الله تعالى قال، "وإذْ أخَذَ رَبُّكَ من بني آدم" ولم يقُل "من آدم".
  2. وثانيًا، نجد بوضوح أنَّ الله تعالى يُخبِرُنا بأنهُ خلق جميع الأمم أُمَّة بعد أُمَّة بواسطة التزاوج والتناسُلْ، وهذا يعني أنَّ كُلُّ ذُرِّيَّة أتَتْ من ذُّرِّيَة بني آدم الّتي سبقتها، كما أخبرنا الله تعالى في سور النحل، الإسراء ومريم:

سُوۡرَةُ الاٴعرَاف
وَإِذۡ أَخَذَ رَبُّكَ مِنۢ بَنِىٓ ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمۡ ذُرِّيَّتَہُمۡ وَأَشۡہَدَهُمۡ عَلَىٰٓ أَنفُسِہِمۡ أَلَسۡتُ بِرَبِّكُمۡ‌ۖ قَالُواْ بَلَىٰ‌ۛ شَهِدۡنَآ‌ۛ أَن تَقُولُواْ يَوۡمَ ٱلۡقِيَـٰمَةِ إِنَّا ڪُنَّا عَنۡ هَـٰذَا غَـٰفِلِينَ (١٧٢)

سُوۡرَةُ النّحل
وَٱللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنۡ أَنفُسِكُمۡ أَزۡوَاجً۬ا وَجَعَلَ لَكُم مِّنۡ أَزۡوَاجِڪُم بَنِينَ وَحَفَدَةً۬ وَرَزَقَكُم مِّنَ ٱلطَّيِّبَـٰتِ‌ۚ أَفَبِٱلۡبَـٰطِلِ يُؤۡمِنُونَ وَبِنِعۡمَتِ ٱللَّهِ هُمۡ يَكۡفُرُونَ (٧٢).

سُوۡرَةُ الإسرَاء
وَءَاتَيۡنَا مُوسَى ٱلۡكِتَـٰبَ وَجَعَلۡنَـٰهُ هُدً۬ى لِّبَنِىٓ إِسۡرَاءِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُواْ مِن دُونِى وَڪِيلاً۬ (٢) ذُرِّيَّةَ مَنۡ حَمَلۡنَا مَعَ نُوحٍ‌ۚ إِنَّهُ كَانَ عَبۡدً۬ا شَكُورً۬ا (٣).

سُوۡرَةُ مَریَم
أُوْلَـٰٓٮِٕكَ ٱلَّذِينَ أَنۡعَمَ ٱللَّهُ عَلَيۡہِم مِّنَ ٱلنَّبِيِّـۧنَ مِن ذُرِّيَّةِ ءَادَمَ وَمِمَّنۡ حَمَلۡنَا مَعَ نُوحٍ۬ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبۡرَاهِيمَ وَإِسۡرَاءِيلَ وَمِمَّنۡ هَدَيۡنَا وَٱجۡتَبَيۡنَآ‌ۚ إِذَا تُتۡلَىٰ عَلَيۡهِمۡ ءَايَـٰتُ ٱلرَّحۡمَـٰنِ خَرُّواْ سُجَّدً۬ا وَبُكِيًّ۬ا (٥٨).

والآن، إذا ربطنا وقارنّا آية 169 في سورة الأعراف بآية 59 في سورة مريم، نجد أنَّ آية 169 في سورة الأعراف تُعطينا الدليل والمعنى الحقيقي "لإضاعة الصلواة واتباع الشهوات" في آية 59 من سورة مريم:

سُوۡرَةُ الاٴعرَاف
فَخَلَفَ مِنۢ بَعۡدِهِمۡ خَلۡفٌ۬ وَرِثُواْ ٱلۡكِتَـٰبَ يَأۡخُذُونَ عَرَضَ هَـٰذَا ٱلۡأَدۡنَىٰ وَيَقُولُونَ سَيُغۡفَرُ لَنَا وَإِن يَأۡتِہِمۡ عَرَضٌ۬ مِّثۡلُهُ يَأۡخُذُوهُ‌ۚ... (١٦٩).

سُوۡرَةُ مَریَم
فَخَلَفَ مِنۢ بَعۡدِهِمۡ خَلۡفٌ أَضَاعُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَٱتَّبَعُواْ ٱلشَّہَوَاتِ‌ۖ فَسَوۡفَ يَلۡقَوۡنَ غَيًّا (٥٩).

إنّ إضاعة الصلواة هي إضاعة الكتاب بتحريفه من خلال أقاويل وأحاديث كاذبة وأديان باطلة. أي من خلال عدم اتباع الحق (كتاب الله)، ولكن اتباع الباطل (قوانين باطلة) لصالح الشهوات من أجل التمتع بالحياة الدنيا. إذًا فالصلواة هي كتاب الله والشهوات هي كُتُب أخرى مصنوعة من بشر بحجة أنها دين الله. تلك الكتب تُعطي الدين الباطل، وهذا الدين الباطل يسمح لنفسه بأن يحتال على الناس ويعدهم بالجنة مهما عملوا من سيِّئات وذنوب في الأرض، المهم فقط أن يؤمنوا بهذا الدين فتصبح الشفاعة والخلاص لهم في الآخرة حتى لو لم يتوبوا أو يُطهِّروا أنفسهم، بحجة أنَّ الإنسان لا يستطيع أن يُطهِّر نفسه في الأرض ولا أن يمتنع عن فعل السيِّئات والمعاصي، فيصبح الإنسان بذلك يستطيع أن يفعل ما يشآء في هذه الأرض من تملك إلى ظلم إلى فساد من أجل أخذ الخيرات في الأرض واتباع الشهوات والتمتع في الحياة الدنيا، ظنًّا منه أنه مهما فعل من أعمال سيئة فسوف تكون له الجنة في الآخرة. إذًا فإنَّ الإيمان بتلك الأديان والدخول فيها هو الّذي جعل الإنسان يتبع الشهوات. إنَّ ما ذكرته لكم تجدونه موجودًا في جميع الأديان الباطلة في هذه الأرض، باستثناء دين الله الحق القرءان الكريم، الّذي يعطي الفرصة للإنسان أن يتوب وأن يعمل الصالحات ويطهر نفسه في هذه الأرض أولاً، كي يستطيع ثانيًا الوصول إلى الجنة في الآخرة، وإلاَّ فسوف تكون له جهنم.

هناك دليلٌ آخر قوي يؤكِّدُ لنا أكثر معنى الآيتين السابقتين (آية 169 في سورة الأعراف، وآية 59 في سورة مريم) ويُبيِّن لنا المعنى الحقيقي للصلواة. نجد هذا الدليل في آية 169 من سورة الأعراف من خلال إعطاء الله عز وجل لنا معنىً معاكسًا لهذه الآية في الآية الّتي تليها (آية 170):

سُوۡرَةُ الاٴعرَاف
فَخَلَفَ مِنۢ بَعۡدِهِمۡ خَلۡفٌ۬ وَرِثُواْ ٱلۡكِتَـٰبَ يَأۡخُذُونَ عَرَضَ هَـٰذَا ٱلۡأَدۡنَىٰ وَيَقُولُونَ سَيُغۡفَرُ لَنَا وَإِن يَأۡتِہِمۡ عَرَضٌ۬ مِّثۡلُهُ يَأۡخُذُوهُ‌ۚ أَلَمۡ يُؤۡخَذۡ عَلَيۡہِم مِّيثَـٰقُ ٱلۡكِتَـٰبِ أَن لَّا يَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ إِلَّا ٱلۡحَقَّ وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ‌ۗ وَٱلدَّارُ ٱلۡأَخِرَةُ خَيۡرٌ۬ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ‌ۗ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ (١٦٩) وَٱلَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِٱلۡكِتَـٰبِ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجۡرَ ٱلۡمُصۡلِحِينَ (١٧٠).

نجد في آية 170 معنىً مُعاكسًا لِمعنى آية 169. إذًا فإنَّ الّذين يُمَسِّكُونَ بِٱلۡكِتَـٰبِ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ هم الّذين وَرِثُواْ ٱلۡكِتَـٰبَ ولم يَأۡخُذُوا  عَرَضَ هَـٰذَا ٱلۡأَدۡنَىٰ وَلم يَقُولُوا سَيُغۡفَرُ لَنَا، وَإِن يَأۡتِہِمۡ عَرَضٌ۬ مِّثۡلُهُ لم يَأۡخُذُوهُ‌ۚ، وبالتالي هُم المتقون الّذين يعقلون

إذا تدبرنا آية 170 في سورة الأعراف:

سُوۡرَةُ الاٴعرَاف
وَٱلَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِٱلۡكِتَـٰبِ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجۡرَ ٱلۡمُصۡلِحِينَ (١٧٠).

هناك عدة أسئلة أريد أن أطرحها عليكم بعد تدبرنا لآية 170: "وَٱلَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِٱلۡكِتَـٰبِ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجۡرَ ٱلۡمُصۡلِحِينَ". إذا كانت إقامة الصلواة كما يزعمون هي إقامة الخمس صلوات فرض مع عدد ركعاتها وطريقة إقامتها، فلماذا ربط الله عز وجل لنا "التَّمَسُّكْ بكتابِهِ" ب"إقامة الصلواة" ولم يربط لنا "التَّمَسُّكْ بكتابِهِ" بإقامة "الخمس صلوات فرض"؟ وكيف تُعطينا الصلوات الخمس مع عدد ركعاتها أجر الإصلاح؟ وما دخلها أصلاً بمعنى وتطبيق الإصلاح؟ فهل إذا صلَّينا الصلوات الخمس نكون نفعل إصلاحًا خلال أوقاتِ صلاتنا؟

الحقيقة هي كالتالي: لقد وضع الله عزَّ وجلّْ لنا تلك الآية (آية 170) في هذا السِّياق لكي يُبيِّن لنا بالتفصيل المعنى الحقيقي للصلواة وإقامتَها، فيدلنا عليه ويُظهِرُهُ لنا بِرَبْطِهِ ما بين التَّمَسُّك بكتابِهِ وإقامة الصلواة وإقامة الإصلاح. لقد أراد الله عز وجل أنْ يُخبرَنا بأن كتابَه هو الصلواة، وأنَّ تطبيقه والعمل بِهِ هو إقامة الصلواة، وأنَّ إقامة الصلواة هو إقامة الإصلاح، لأنَّ تطبيق كتاب الله في الأرض بنشر الخير والعدل كما أمرنا تعالى في كتابه هو الإصلاح. وكأنَّ الله عزَّ وجَلّْ يُريدُ أنْ يقول لنا: "والّذينَ يُمَسِّكون بالكِتابِ وأقاموا الكِتابَ إنّا لا نُضيعُ أجْرَ المُصْلِحينْ". إنَّ التَّمَسُّكْ بِكِتابِ اللهِ يكون بإقامتِهِ أي بالعملِ بِهِ، وإقامته تؤدّي بِنا إلى أن نكون ملصحين لأنفسنا وللآخرين فنقيم الإصلاح بين الناس في الأرض.

 

5. البرهان الثالث:

آية 2 إلى 4 في سورة الأنفال، وآية 74 في سورة الأنفال أيضًا:

سُوۡرَةُ الاٴنفَال
إِنَّمَا ٱلۡمُؤۡمِنُونَ ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَجِلَتۡ قُلُوبُہُمۡ وَإِذَا تُلِيَتۡ عَلَيۡہِمۡ ءَايَـٰتُهُ زَادَتۡہُمۡ إِيمَـٰنً۬ا وَعَلَىٰ رَبِّهِمۡ يَتَوَكَّلُونَ (٢) ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقۡنَـٰهُمۡ يُنفِقُونَ (٣) أُوْلَـٰٓٮِٕكَ هُمُ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ حَقًّ۬ا‌ۚ لَّهُمۡ دَرَجَـٰتٌ عِندَ رَبِّهِمۡ وَمَغۡفِرَةٌ۬ وَرِزۡقٌ۬ ڪَرِيمٌ۬ (٤).

سُوۡرَةُ الاٴنفَال
وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَـٰهَدُواْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ ءَاوَواْ وَّنَصَرُوٓاْ أُوْلَـٰٓٮِٕكَ هُمُ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ حَقًّ۬ا‌ۚ لَّهُم مَّغۡفِرَةٌ۬ وَرِزۡقٌ۬ كَرِيمٌ۬ (٧٤).

إذا عُدنا لآية 2 إلى 4 في أوَّلْ سورة الأنفال، نجد بأنَّ "الّذين يُقيمون الصلواة ومِمّا رزقْناهُمْ يُنْفِقون" في آية 3 هُمْ "المؤمنونَ الّذينَ إذا ذُكِرَ الله وَجِلَتۡ قُلُوبُہُمۡ وَإِذَا تُلِيَتۡ عَلَيۡہِمۡ ءَايَـٰتُهُ زَادَتۡہُمۡ إِيمَـٰنً۬ا وَعَلَىٰ رَبِّهِمۡ يَتَوَكَّلُونَ" في آية 2، وهُمْ أيضًا "المؤمنون حقًّا، لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ ومَغْفْرَةً ورِزْقٌ كَريمْ" في آية 4.

وإذا قرأنا آية 74 في آخِرِ سورة الأنفال، نجد بأنَّ "الّذين ءامنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيلِ اللهِ والّذين ءاوَوا ونصروا" هُمْ أيضًا "المؤمنون حقَّا، ولَهُمْ أيضًا مَغْفْرَةٌ ورِزْقٌ كَريمْ".

وإذا قارنّا آية 74 بآية 3 و4، نجد وبوضوحٍ تامْ أنَّ الله عز وجل يُريدُ أن يُقولَ لنا أنَّ "الذينَ يُقيمون الصلواة ومِمّا رزَقْناهُمْ يُنْفِقون" في آية 3 هُمْ "الّذين ءامنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيلِ الله والّذين ءاوَوا ونَصَروا" في آية 74. ولقد أخبرنا الله تعالى في آية 3 و4 أنَّ "المؤمنون حقاً" هُم "الّذين يُقيمون الصلواة"، وأخبرنا في آية 74 أنّ "المؤمنون حقًّا" هٌم "الذّين ءامنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والّذين ءاوَوا ونَصَروا". إذًا فإن المعنى الحقيقي لإقامة الصلواة هو الإيمان بالله والهجرة والجهاد في سبيلِهِ والإيوآء ونصرة الله ورسوله والمؤمنين والمظلومين. وهذا يعني أنَّ إقامة الصلواة هي إعطاء وتبليغ ونشر كتاب الله ودينه في الأرض. بمعنى أصَح هي توصيل رسالة القرءان في الأرض حتّى لو تَعَرَّضَ المؤمن للقتال أو للجهاد بكُلِّ ما يَمْلُكْ في سبيل الله بِهّدَفْ نشر العدل والإصلاح في الأرض والنهي عن الظلم والفساد. ولذلِكَ أكْمَلَ الله تعالى آية 4 بقوله: "لهم درجاتٌ عند ربِّهِم ومغفِرَةٌ ورِزْقٌ كريم"، وآية 74 بقوله: "لهُم مغفِرةٌ ورِزْقٌ كريمْ".

ومن أجل ما ذكرت، بدأ الله تعالى سورة الأنفال بآية 1:

سُوۡرَةُ الاٴنفَال
بِسۡمِ ٱللهِ ٱلرَّحۡمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ
يَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡأَنفَالِ‌ۖ قُلِ ٱلۡأَنفَالُ لِلَّهِ وَٱلرَّسُولِ‌ۖ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَصۡلِحُواْ ذَاتَ بَيۡنِڪُمۡ‌ۖ وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ (١).

فعل نفل في اللغة العربية يعني "أعطى نافلةً من المعروف لا يُريد ثوابَه منه". والنافلة هي الهبة أو العطِيَّة أو الزيادة. في هذه الآية يُريدُ الله عز وجل أن يُخبِرَنا أنَّ الأنفال هي عطايا المؤمن من معروف وإحسان من دون أن يأخذ أجرًا عليها، لأنَّ المؤمن يكون أجره على الله، وعطِيَّتَهُ لا تكون إلاّ في سبيل الله وفي سبيل الرسول لأنه حامل لرسالة الله. أي في سبيل تطبيق القرءان الكريم. 

لذلك قال الله تعالى في آية 104 من سورة يوسف، وفي آية 47 من سورة سبأ:

سُوۡرَةُ یُوسُف
وَمَا تَسۡـَٔلُهُمۡ عَلَيۡهِ مِنۡ أَجۡرٍ‌ۚ إِنۡ هُوَ إِلَّا ذِڪۡرٌ۬ لِّلۡعَـٰلَمِينَ (١٠٤).

سُوۡرَةُ سَبَإ
قُلۡ مَا سَأَلۡتُكُم مِّنۡ أَجۡرٍ۬ فَهُوَ لَكُمۡۖ إِنۡ أَجۡرِىَ إِلَّا عَلَى ٱللَّهِۖ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَىۡءٍ۬ شَہِيدٌ۬ (٤٧).

ما هي عطية المؤمن؟ هي إعطاء وتبليغ رسالة القرءان في أي مكان في الأرض وتطبيقه بنشر العدل والبِرّْ والإحسان (أي الإصلاح). ولذلك قال الله تعالى في هذه الآية (آية 1) من سورة الأنفال: "فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وأصْلِحوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وأطيعوا اللهَ ورَسولَهُ إنْ كُنْتُمْ مؤمِنينْ". إنَّ "إصلاح ذات البين" هو نشر الإصلاح بين الناس والنهي عن الظلم والفساد، وهذا لا يكون إلاَّ بتقوانا لله وبِإطاعته ورسوله من خلال تطبيق ما أمرنا عز وجل بِهِ في كل آية من آيات القرءان الكريم. مثالاً للآيات الّتي على المؤمن أن يُطبقها هي الأنفال، وعليها أن تكون "لِلَّهِ وَٱلرَّسُولِ‌ۖ".

ما معنى قول الله تعالى في آية 3 من سورة الأنفال: "وَمِمَّا رَزَقۡنَـٰهُمۡ يُنفِقُونَ"؟

أريدُ أن أُبَيِّن أمرًا في غاية الأهمِيَّة، وهو أنَّ المعنى الباطن للنفقة من رِزْقِ الله هو النفقة من كتابِ الله، لأن القرءان الكريم وجميع كتب الله هي الرِّزْقْ الّذي أنزَلَهُ الله عزّ وجلّْ إلى جميع أنبيائه ورُسُلِهِ وإلى جميع الناس. وإنَّ كل آية من آياتِهِ هي رزق لنا، لأنَّها ترزقنا الخير والإصلاح وتدخلنا الجنة في الآخرة. ولذلك وصف الله تعالى القرءان (وجميع كتبه الّتي أنزلها في السابق على أنبيائِهِ ورُسُلِهِ) بالرزق لأنه يجعل الإنسان الّذي ينفق منه يقيم الخير والعدل والإحسان للفقراء والمحتاجين (ظاهرًا وباطنًا)، وبالتالي يرزق هذا الإنسان الّذي يُنفق مِنهُ (في سبيل الخير) الجنة في الآخرة. إذًا، فعندما يرزقنا الله تعالى القرءان الكريم فهذا يعني أنَّهُ سُبحانه يرزقنا الجنة بغير حساب. لذلك علينا أن ننفق من هذا الكتاب لا من غيرِهِ، أي علينا أن نُقيمه ونُطبِّقه في حياتنا وننفق من كل آية من آياتِهِ في سبيل الله لأنفسنا وللآخرين. وإنَّ الهدف من النفقة من رزق الله أي من كتاب الله (بتطبيق المعنى الظاهر والباطن للآيات) هو نشر الخير والعدل والإحسان، أي نشر الإصلاح في الأرض. الدليل على أنَّ المعنى الباطن من النفقة من رزق الله هو النفقة من كتاب الله نجده في عدة سور، سوف أذكر بعضًا منها:

سُوۡرَةُ یُونس
قُلۡ أَرَءَيۡتُم مَّآ أَنزَلَ ٱللَّهُ لَكُم مِّن رِّزۡقٍ۬ فَجَعَلۡتُم مِّنۡهُ حَرَامً۬ا وَحَلَـٰلاً۬ قُلۡ ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمۡ‌ۖ أَمۡ عَلَى ٱللَّهِ تَفۡتَرُونَ (٥٩) وَمَا ظَنُّ ٱلَّذِينَ يَفۡتَرُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡڪَذِبَ يَوۡمَ ٱلۡقِيَـٰمَةِ‌ۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَذُو فَضۡلٍ عَلَى ٱلنَّاسِ وَلَـٰكِنَّ أَكۡثَرَهُمۡ لَا يَشۡكُرُونَ (٦٠).

("قُلۡ أَرَءَيۡتُم مَّآ أَنزَلَ ٱللَّهُ لَكُم مِّن رِّزۡقٍ۬": لاحظوا قول الله عز وجل: "مَّآ أَنزَلَ ٱللَّهُ". ما هو الرزق الّذي أنزل الله عز وجل لنا؟ هو بالتأكيد تنزيل وحي القرءان الكريم. ولذلك أكمل تعالى بقوله: "فَجَعَلۡتُم مِّنۡهُ حَرَامً۬ا وَحَلَـٰلاً۬ قُلۡ ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمۡ‌ۖ أَمۡ عَلَى ٱللَّهِ تَفۡتَرُونَوَمَا ظَنُّ ٱلَّذِينَ يَفۡتَرُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡڪَذِبَ يَوۡمَ ٱلۡقِيَـٰمَةِ‌ۗ، إِنَّ ٱللَّهَ لَذُو فَضۡلٍ عَلَى ٱلنَّاسِ وَلَـٰكِنَّ أَكۡثَرَهُمۡ لَا يَشۡكُرُونَ").

سُوۡرَةُ البَقَرَة
ذَالِكَ ٱلۡڪِتَـٰبُ لَا رَيۡبَ‌ۛ فِيهِ‌ۛ هُدً۬ى لِّلۡمُتَّقِينَ (٢) ٱلَّذِينَ يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡغَيۡبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقۡنَـٰهُمۡ يُنفِقُونَ (٣).

("وَمِمَّا رَزَقۡنَـٰهُمۡ يُنفِقُونَ": ما هو الرزق الّذي رزق الله عز وجل المُتَّقين إيّاهُ والّذي عليهم أن يُنفقوا منه؟ نجد الجواب في آية 2: هو "ذَالِكَ ٱلۡڪِتَـٰبُ" الّذي "لَا رَيۡبَ‌ۛ فِيهِ‌ۛوالّذي هو "هُدً۬ى لِّلۡمُتَّقِينَ". إذًا الرزق الّذي يجب على المؤمن التَّقي أن يُنفق منه هو "ذَالِكَ ٱلۡڪِتَـٰبُ" أي هو القرءان الكريم).

سُوۡرَةُ البَقَرَة
سَلۡ بَنِىٓ إِسۡرَاءِيلَ كَمۡ ءَاتَيۡنَـٰهُم مِّنۡ ءَايَةِۭ بَيِّنَةٍ۬‌ۗ وَمَن يُبَدِّلۡ نِعۡمَةَ ٱللَّهِ مِنۢ بَعۡدِ مَا جَآءَتۡهُ فَإِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ (٢١١) زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَا وَيَسۡخَرُونَ مِنَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ‌ۘ وَٱلَّذِينَ ٱتَّقَوۡاْ فَوۡقَهُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَـٰمَةِ‌ۗ وَٱللَّهُ يَرۡزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيۡرِ حِسَابٍ۬ (٢١٢).

(نجد في آية 211 أنَّ نِعۡمَةَ ٱللَّهِ هي الآيات البينات الّتي ءاتاها الله لبني إسرآئيل، ولكنَّ بني إسرآئيل بدلوها من بعد ما جآءتهم من أجل الحيواة الدنيا فكفروا بالله.

ونجد في آية 212 أنَّ الّذين اتقوا أي الّذين لم يُبدلوا نعمة الله أي آياته البينات من بعد ما جآءتهم فسوف يرزقهم الله منها في الآخرة بغير حساب. إذًا فإنَّ نعمة الله هي رزقه في الدنيا والآخرة)

سُوۡرَةُ البَقَرَة
يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقۡنَـٰكُم مِّن قَبۡلِ أَن يَأۡتِىَ يَوۡمٌ۬ لَّا بَيۡعٌ۬ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ۬ وَلَا شَفَـٰعَةٌ۬‌ۗ وَٱلۡكَـٰفِرُونَ هُمُ ٱلظَّـٰلِمُونَ (٢٥٤).

("يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقۡنَـٰكُم": النفقة من الرزق هي النفقة من كتاب الله، ولذلك أكمل تعالى بقوله: "وَٱلۡكَـٰفِرُونَ هُمُ ٱلظَّـٰلِمُونَ").

سُوۡرَةُ آل عِمرَان
فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ۬ وَأَنۢبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنً۬ا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا‌ۖ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيۡهَا زَكَرِيَّا ٱلۡمِحۡرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزۡقً۬ا‌ۖ قَالَ يَـٰمَرۡيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَـٰذَا‌ۖ قَالَتۡ هُوَ مِنۡ عِندِ ٱللَّهِ‌ۖ إِنَّ ٱللَّهَ يَرۡزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيۡرِ حِسَابٍ (٣٧).

(إنَّ رزق مريم عليها السلام الّذي وجده زكريا عندها كلما دخل عليها المحراب هو النبات الحسَن الّذي أنبتها الله عز وجل إيّاه بتقبله  واصطفائِه لها وبتطهيرها من الذنوب وبجعلها نبية ورسولة. وهذا الرزق والنبات الحسن هو وحي آياته بواسطة الملآئكة).

سُوۡرَةُ النّحل
ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً عَبۡدً۬ا مَّمۡلُوكً۬ا لَّا يَقۡدِرُ عَلَىٰ شَىۡءٍ۬ وَمَن رَّزَقۡنَـٰهُ مِنَّا رِزۡقًا حَسَنً۬ا فَهُوَ يُنفِقُ مِنۡهُ سِرًّ۬ا وَجَهۡرًا‌ۖ هَلۡ يَسۡتَوُ ۥنَ‌ۚ ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ‌ۚ بَلۡ أَڪۡثَرُهُمۡ لَا يَعۡلَمُونَ (٧٥).

("العبد المملوك" هو الإنسان المملوك من دينه وعاداته وتقاليده ومجتمعه وأوليائه، ولذلك فهو "لَّا يَقۡدِرُ عَلَىٰ شَىۡءٍ۬"، أي لا يقدر على فعل الخير والإصلاح أو على اتخاذ أي قرار لأنه مملوك أي مُستعبَد وخائِف ومحكوم من غيرِهِ وليس بيده القرار، فهو ليس حُرًّا طليقًا  لأنه مملوك من دينه وعاداته وتقاليده ومجتمعه وأسيادِهِ.

"ومن رزقه الله منه رزقًا حسنًا" هو الإنسان المرزوق من دين الله وكتابه، ولذلك "فَهُوَ يُنفِقُ مِنۡهُ سِرًّ۬ا وَجَهۡرًا‌" أي يُقيمه بحرية مُطلقة ومن دون أي خوف من أحد، لأنه ليس مملوكًا أو محكومًا من أحد، ولذلك فهو يستطيع أن يتخذ القرار الصائب ويُنفق من رزق الله أي من دين الله وكتابه "سِرًّ۬ا وَجَهۡرًا‌" أي بثقة وحرية ومن دون أي خوف).

سُوۡرَةُ غَافر
هُوَ ٱلَّذِى يُرِيكُمۡ ءَايَـٰتِهِۦ وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ رِزۡقً۬اۚ وَمَا يَتَذَڪَّرُ إِلَّا مَن يُنِيبُ (١٣) فَٱدۡعُواْ ٱللَّهَ مُخۡلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ وَلَوۡ كَرِهَ ٱلۡكَـٰفِرُونَ (١٤) رَفِيعُ ٱلدَّرَجَـٰتِ ذُو ٱلۡعَرۡشِ يُلۡقِى ٱلرُّوحَ مِنۡ أَمۡرِهِۦ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ مِنۡ عِبَادِهِۦ لِيُنذِرَ يَوۡمَ ٱلتَّلَاقِ (١٥).

("هُوَ ٱلَّذِى يُرِيكُمۡ ءَايَـٰتِهِۦ وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ رِزۡقً۬اۚ": الرزق الّذي يُنزله الله عز وجل لنا من السماء هو آياتِهِ، ولذلك قال تعالى:"هُوَ ٱلَّذِى يُرِيكُمۡ ءَايَـٰتِهِ"، وأكمل بقوله: "وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ رِزۡقً۬اۚ"، وأكمل بعد ذلك بقوله في آخر آية 13 وفي آية 14: "وَمَا يَتَذَڪَّرُ إِلَّا مَن يُنِيبُ، فَٱدۡعُواْ ٱللَّهَ مُخۡلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ وَلَوۡ كَرِهَ ٱلۡكَـٰفِرُونَ".

ونحن إذا تدبرنا آية 15، نجد في قول الله عز وجل: "رَفِيعُ ٱلدَّرَجَـٰتِ ذُو ٱلۡعَرۡشِ يُلۡقِى ٱلرُّوحَ مِنۡ أَمۡرِهِۦ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ مِنۡ عِبَادِهِۦ لِيُنذِرَ يَوۡمَ ٱلتَّلَاقِ" دليلاً لنا على أنَّ الروح الّذي يُلقيه الله عز وجل من أمرِهِ على من يشآء من عباده هو آياته الّتي أرانا إيّاها وهو الرزق الّذي أنزله تعالى من السماء لنا، وهو أيضًا العلم الّذي وضعه تعالى لنا في آياتِهِ لقوله تعالى: "رَفِيعُ ٱلدَّرَجَـٰتِ ذُو ٱلۡعَرۡشِ يُلۡقِى ٱلرُّوحَ مِنۡ أَمۡرِهِۦ".

مع الملاحظة: أنَّ عرش الله تبارك وتعالى هو علمه. "ذو العرش" = "ذو العلم".
وأنَّ الروح هو وحي آيات الكتاب.
الرزق =
ءَايَـٰتِهِ = عرش الله = علم الله = روح الله = كتاب الله = القرءان الكريم).

سُوۡرَةُ هُود
قَالَ يَـٰقَوۡمِ أَرَءَيۡتُمۡ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ۬ مِّن رَّبِّى وَرَزَقَنِى مِنۡهُ رِزۡقًا حَسَنً۬ا‌ۚ وَمَآ أُرِيدُ أَنۡ أُخَالِفَكُمۡ إِلَىٰ مَآ أَنۡهَٮٰڪُمۡ عَنۡهُ‌ۚ إِنۡ أُرِيدُ إِلَّا ٱلۡإِصۡلَـٰحَ مَا ٱسۡتَطَعۡتُ‌ۚ وَمَا تَوۡفِيقِىٓ إِلَّا بِٱللَّهِ‌ۚ عَلَيۡهِ تَوَكَّلۡتُ وَإِلَيۡهِ أُنِيبُ (٨٨).

("كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ۬ مِّن رَّبِّى" = "رَزَقَنِى مِنۡهُ رِزۡقًا حَسَنً۬ا‌ۚ". الرزق الحسن هو البينة أي هو كتاب الله القرءان الكريم. تجدون الدليل على ذلك في البرهان التالي (البرهان الرابع)).

سُوۡرَةُ الاٴنفَال
يَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡأَنفَالِ‌ۖ قُلِ ٱلۡأَنفَالُ لِلَّهِ وَٱلرَّسُولِ‌ۖ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَصۡلِحُواْ ذَاتَ بَيۡنِڪُمۡ‌ۖ وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ (١) إِنَّمَا ٱلۡمُؤۡمِنُونَ ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَجِلَتۡ قُلُوبُہُمۡ وَإِذَا تُلِيَتۡ عَلَيۡہِمۡ ءَايَـٰتُهُ زَادَتۡہُمۡ إِيمَـٰنً۬ا وَعَلَىٰ رَبِّهِمۡ يَتَوَكَّلُونَ (٢) ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقۡنَـٰهُمۡ يُنفِقُونَ (٣) أُوْلَـٰٓٮِٕكَ هُمُ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ حَقًّ۬ا‌ۚ لَّهُمۡ دَرَجَـٰتٌ عِندَ رَبِّهِمۡ وَمَغۡفِرَةٌ۬ وَرِزۡقٌ۬ ڪَرِيمٌ۬ (٤).

إنَّ النفقة من رزق الله تكون بإقامة الصلواة أي بإقامة كتاب الله أي بتطبيق قانونه في الأرض. إذًا فإنَّ إقامة الصلواة لا تكون إلاَّ بالنفقة من رِزْقِ الله الّتي هي أيضًا النفقة في سبيل الله. ولذلك نجد في آية 3 من سورة الأنفال أنَّ الله عز وجل قد رَبَطَ لنا إقامة الصلواة  بالنفقة من رِزْقِهِ بِقَوْلِهِ فيها: "الّذين يُقيمون الصلواة ومِمّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقون". ونجد هذا الرّابِط أيضًا في عدة آيات في القرءان الكريم.

 

6. البرهان الرابع:

والآن سوف أتلو عليكم آيات بيِّنات من سورة هود تُعطينا الدليل والبرهان الواضح للمعنى الحقيقي للصلواة وإقامتها، وتؤكِّدُ لنا هذا المعنى.

سورة هود من آية 84 إلى آية 88:

سُوۡرَةُ هُود
وَإِلَىٰ مَدۡيَنَ أَخَاهُمۡ شُعَيۡبً۬ا‌ۚ قَالَ يَـٰقَوۡمِ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَڪُم مِّنۡ إِلَـٰهٍ غَيۡرُهُ ۥ‌ۖ وَلَا تَنقُصُواْ ٱلۡمِڪۡيَالَ وَٱلۡمِيزَانَ‌ۚ إِنِّىٓ أَرَٮٰڪُم بِخَيۡرٍ۬ وَإِنِّىٓ أَخَافُ عَلَيۡڪُمۡ عَذَابَ يَوۡمٍ۬ مُّحِيطٍ۬ (٨٤) وَيَـٰقَوۡمِ أَوۡفُواْ ٱلۡمِڪۡيَالَ وَٱلۡمِيزَانَ بِٱلۡقِسۡطِ‌ۖ وَلَا تَبۡخَسُواْ ٱلنَّاسَ أَشۡيَآءَهُمۡ وَلَا تَعۡثَوۡاْ فِى ٱلۡأَرۡضِ مُفۡسِدِينَ (٨٥) بَقِيَّتُ ٱللَّهِ خَيۡرٌ۬ لَّكُمۡ إِن ڪُنتُم مُّؤۡمِنِينَ‌ۚ وَمَآ أَنَا۟ عَلَيۡكُم بِحَفِيظٍ۬ (٨٦) قَالُواْ يَـٰشُعَيۡبُ أَصَلَوٰتُكَ تَأۡمُرُكَ أَن نَّتۡرُكَ مَا يَعۡبُدُ ءَابَآؤُنَآ أَوۡ أَن نَّفۡعَلَ فِىٓ أَمۡوَالِنَا مَا نَشَـٰٓؤُاْ‌ۖ إِنَّكَ لَأَنتَ ٱلۡحَلِيمُ ٱلرَّشِيدُ (٨٧) قَالَ يَـٰقَوۡمِ أَرَءَيۡتُمۡ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ۬ مِّن رَّبِّى وَرَزَقَنِى مِنۡهُ رِزۡقًا حَسَنً۬ا‌ۚ وَمَآ أُرِيدُ أَنۡ أُخَالِفَكُمۡ إِلَىٰ مَآ أَنۡهَٮٰڪُمۡ عَنۡهُ‌ۚ إِنۡ أُرِيدُ إِلَّا ٱلۡإِصۡلَـٰحَ مَا ٱسۡتَطَعۡتُ‌ۚ وَمَا تَوۡفِيقِىٓ إِلَّا بِٱللَّهِ‌ۚ عَلَيۡهِ تَوَكَّلۡتُ وَإِلَيۡهِ أُنِيبُ (٨٨).

في آية 84 و85 نرى بأن قوم الرسول شُعيب عليه السلام كانوا يعبدون إلاهًا (آلهةً) غير الله، أي كانوا يتبعون دينًا (أديانًا) غير دين الله أي قانون (قوانين) غير قانون الله، مِمّا أدّى بِهِمْ إلى عدم العدل في الأرض وإلى عدم إعطاء النّاس حَقَّهُمْ وإلى الفساد في الأرض. ولذلك دعاهم شعيب عليه السلام في تلك الآيات البينات إلى عبادة الله الواحد الأحد أي إلى اتباع دين الله وقانونه وحده لا شريك له، لكي يُقيموا العدل أي يوفوا المِكيال والميزان بالقسط فيُعطوا الناس حقَّهُم ويتوقَّفوا عن الفساد. ولذلك قال لهم شعيب في آية 86: "بَقِيَّتُ ٱللَّهِ خَيۡرٌ۬ لَّكُمۡ إِن ڪُنتُم مُّؤۡمِنِينَ‌ۚ وَمَآ أَنَا۟ عَلَيۡكُم بِحَفِيظٍ۬". "بقِيَّتُ اللهِ خيرٌ لكُمْ" تعني "كتاب الله خَيْرٌ لَكُمْ". وهنا نجد بأنَّ شعيب علَيْهِ السلام يدعو قومه إلى كتابِ الله أي إلى الجنة، ولذلك قال لهم في آخر آية 86: "وما أنا علَيْكُمْ بِحَفيظ".

الدليل على أنَّ بَقِيَّتُ الله هي كتاب (أو كُتُب) الله والجنة، نجِدُهُ في سورة البقرة، النحل وهود:

سُوۡرَةُ البَقَرَة
وَقَالَ لَهُمۡ نَبِيُّهُمۡ إِنَّ ءَايَةَ مُلۡڪِهِۦۤ أَن يَأۡتِيَڪُمُ ٱلتَّابُوتُ فِيهِ سَڪِينَةٌ۬ مِّن رَّبِّڪُمۡ وَبَقِيَّةٌ۬ مِّمَّا تَرَكَ ءَالُ مُوسَىٰ وَءَالُ هَـٰرُونَ تَحۡمِلُهُ ٱلۡمَلَـٰٓٮِٕكَةُ‌ۚ إِنَّ فِى ذَالِكَ لَأَيَةً۬ لَّڪُمۡ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ (٢٤٨).

سُوۡرَةُ هُود
بَقِيَّتُ ٱللَّهِ خَيۡرٌ۬ لَّكُمۡ إِن ڪُنتُم مُّؤۡمِنِينَ‌ۚ وَمَآ أَنَا۟ عَلَيۡكُم بِحَفِيظٍ۬ (٨٦).

(آية 248 من سورة البقرة: "وبقيةٌ مما ترك آل موسى وآل هارون تَحۡمِلُهُ ٱلۡمَلَـٰٓٮِٕكَةُ‌ۚ" = كتاب موسى وكتاب هارون نزلت بِهِ الملآئكة).

سُوۡرَةُ النّحل
وَلَا تَشۡتَرُواْ بِعَهۡدِ ٱللَّهِ ثَمَنً۬ا قَلِيلاً‌ۚ إِنَّمَا عِندَ ٱللَّهِ هُوَ خَيۡرٌ۬ لَّكُمۡ إِن ڪُنتُمۡ تَعۡلَمُونَ (٩٥) مَا عِندَكُمۡ يَنفَدُ‌ۖ وَمَا عِندَ ٱللَّهِ بَاقٍ۬‌ۗ وَلَنَجۡزِيَنَّ ٱلَّذِينَ صَبَرُوٓاْ أَجۡرَهُم بِأَحۡسَنِ مَا ڪَانُواْ يَعۡمَلُونَ (٩٦).

("ما عندكم ينفد وما عند الله باق" = كُتُب البشر (الأديان البشرية) تنفد وتؤدي إلى جهنم لأنها الباطل. أمّا كتاب الله (دين الله) فهو باقٍ  ويؤدي إلى الجنة لأنه الحق).

إذا عُدنا لسورة هود:

سُوۡرَةُ هُود
وَإِلَىٰ مَدۡيَنَ أَخَاهُمۡ شُعَيۡبً۬ا‌ۚ قَالَ يَـٰقَوۡمِ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَڪُم مِّنۡ إِلَـٰهٍ غَيۡرُهُ ۥ‌ۖ وَلَا تَنقُصُواْ ٱلۡمِڪۡيَالَ وَٱلۡمِيزَانَ‌ۚ إِنِّىٓ أَرَٮٰڪُم بِخَيۡرٍ۬ وَإِنِّىٓ أَخَافُ عَلَيۡڪُمۡ عَذَابَ يَوۡمٍ۬ مُّحِيطٍ۬ (٨٤) وَيَـٰقَوۡمِ أَوۡفُواْ ٱلۡمِڪۡيَالَ وَٱلۡمِيزَانَ بِٱلۡقِسۡطِ‌ۖ وَلَا تَبۡخَسُواْ ٱلنَّاسَ أَشۡيَآءَهُمۡ وَلَا تَعۡثَوۡاْ فِى ٱلۡأَرۡضِ مُفۡسِدِينَ (٨٥) بَقِيَّتُ ٱللَّهِ خَيۡرٌ۬ لَّكُمۡ إِن ڪُنتُم مُّؤۡمِنِينَ‌ۚ وَمَآ أَنَا۟ عَلَيۡكُم بِحَفِيظٍ۬ (٨٦) قَالُواْ يَـٰشُعَيۡبُ أَصَلَوٰتُكَ تَأۡمُرُكَ أَن نَّتۡرُكَ مَا يَعۡبُدُ ءَابَآؤُنَآ أَوۡ أَن نَّفۡعَلَ فِىٓ أَمۡوَالِنَا مَا نَشَـٰٓؤُاْ‌ۖ إِنَّكَ لَأَنتَ ٱلۡحَلِيمُ ٱلرَّشِيدُ (٨٧) قَالَ يَـٰقَوۡمِ أَرَءَيۡتُمۡ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ۬ مِّن رَّبِّى وَرَزَقَنِى مِنۡهُ رِزۡقًا حَسَنً۬ا‌ۚ وَمَآ أُرِيدُ أَنۡ أُخَالِفَكُمۡ إِلَىٰ مَآ أَنۡهَٮٰڪُمۡ عَنۡهُ‌ۚ إِنۡ أُرِيدُ إِلَّا ٱلۡإِصۡلَـٰحَ مَا ٱسۡتَطَعۡتُ‌ۚ وَمَا تَوۡفِيقِىٓ إِلَّا بِٱللَّهِ‌ۚ عَلَيۡهِ تَوَكَّلۡتُ وَإِلَيۡهِ أُنِيبُ (٨٨).

نجد جوابَ قومِ شُعيب لِشُعيب عليه السلام بقولِهِمْ لَهُ في آية 87: "قَالُواْ يَـٰشُعَيۡبُ أَصَلَوٰتُكَ تَأۡمُرُكَ أَن نَّتۡرُكَ مَا يَعۡبُدُ ءَابَآؤُنَآ أَوۡ أَن نَّفۡعَلَ فِىٓ أَمۡوَالِنَا مَا نَشَـٰٓؤُاْ‌ۖ إِنَّكَ لَأَنتَ ٱلۡحَلِيمُ ٱلرَّشِيدُ". هذا الجواب هو أكبر دليل وبرهان على المعنى الحقيقي للصلواة وإقامتها. فكيف تستطيع صلواة شُعيب أن تأمُرُهُمْ أن يتركوا دين آباؤهم وأن تمنعهم من أن يتصرُّفوا في أموالهم كيف يشاؤون؟ ما هِيَ إذًا صلواة شُعيب الّتي تأمُرُهُم بِهذا؟ وهنا نجد بالبرهان الواضح أنَّ صلواة شُعَيبْ هِي رِسالة شُعيب الّتي أنزلها الله عز وجل إليه. إذًا فإنَّ صلواة شُعيب هي كِتاب شُعيب. وكأنَّ قومه يقولون له: "أكِتابُكَ يَأْمُرُكَ أنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ ءابآؤنا أو أنْ نَفْعَلَ في أموالِنآ ما نَشآؤاْ، إنَّك لأنت الحَليمُ الرَّشيد". ولذلك أجابهم شُعيب في الآية الّتي تليها آية 88 بقولِهِ لهُم بوحي من الله تعالى: "قَالَ يَـٰقَوۡمِ أَرَءَيۡتُمۡ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ۬ مِّن رَّبِّى وَرَزَقَنِى مِنۡهُ رِزۡقًا حَسَنً۬ا‌ۚ وَمَآ أُرِيدُ أَنۡ أُخَالِفَكُمۡ إِلَىٰ مَآ أَنۡهَٮٰڪُمۡ عَنۡهُ‌ۚ إِنۡ أُرِيدُ إِلَّا ٱلۡإِصۡلَـٰحَ مَا ٱسۡتَطَعۡتُ‌ۚ وَمَا تَوۡفِيقِىٓ إِلَّا بِٱللَّهِ‌ۚ عَلَيۡهِ تَوَكَّلۡتُ وَإِلَيۡهِ أُنِيبُ". في هذه الآية نجد وبوضوح تام أن صلواة شُعيب عليه السلام هي البَيِّنة الّتي هو عليها والرزق الحسن الّذي رزقه الله تعالى إيَاه، لذلك أكمل شعيب قولِهِ لِقَومِهِ: "ومآ أُريدُ أن أُخَالِفَكُمْ إِلَىَ مَآ أَنْهَاكُمْ عَنْهُ، إِنْ أُرِيدُ إِلَّا اْلْإِصْلَاحَ مَا اْسْتَطَعْتُ، ومَا تَوفِيقِي إِلَّا بِاللهِ، عَلَيْهِ تَوَكُّلْتُ وإِلَيْهِ أُنِيبُ". وهنا نرى أنَّ شُعيب عليه السلام يدعوا قومه إلى الإصلاح أي إلى إقامة الصلواة وإقامة كتاب الله والعمل بِهِ من خلال صلاتِهِ من خلال بَقِيَّتُ الله أي كتاب الله الّذي أنزله تعالى عليه الّذي هو البيِّنة والرِّزق الحسن.

الدليل على أنَّ كتاب الله هو البيِّنة، نجدُهُ في سورة البَيِّنَة من آية 1 إلى 5:

سُوۡرَةُ البَیّنَة
بِسۡمِ ٱللهِ ٱلرَّحۡمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ
لَمۡ يَكُنِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَـٰبِ وَٱلۡمُشۡرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّىٰ تَأۡتِيَہُمُ ٱلۡبَيِّنَةُ (١) رَسُولٌ۬ مِّنَ ٱللَّهِ يَتۡلُواْ صُحُفً۬ا مُّطَهَّرَةً۬ (٢) فِيہَا كُتُبٌ۬ قَيِّمَةٌ۬ (٣) وَمَا تَفَرَّقَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَـٰبَ إِلَّا مِنۢ بَعۡدِ مَا جَآءَتۡہُمُ ٱلۡبَيِّنَةُ (٤) وَمَآ أُمِرُوٓاْ إِلَّا لِيَعۡبُدُواْ ٱللَّهَ مُخۡلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ حُنَفَآءَ وَيُقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَيُؤۡتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ‌ۚ وَذَالِكَ دِينُ ٱلۡقَيِّمَةِ (٥).

إذا عُدنا مرَّة أُخرى لآية 84 و85 من سورة هود، وبعد أن علمنا معنى صلواة شُعيب، نجد الآن وبوضوحٍ أكثر، أنَّ شُعيبًا كان يدعو قومه في تلك الآيات إلى اتباع الصلواة وإقامتها، أي إلى الإيمان بكِتابِ الله وحده لا شريك له وإقامته بنشر العدل بين الناس وبعدم الفساد في الأرض (نشر الإصلاح).

وإنَّ قول شعيب عليه السلام لقومه في آية 88: "وَمَآ أُرِيدُ أَنۡ أُخَالِفَكُمۡ إِلَىٰ مَآ أَنۡهَٮٰڪُمۡ عَنۡهُ‌ۚ إِنۡ أُرِيدُ إِلَّا ٱلۡإِصۡلَـٰحَ مَا ٱسۡتَطَعۡتُ‌ۚ"، يُذكِّرُنا تمامًا بما فعله محمد عليه السلام لقومه ولجميع الناس، كما أخبرنا الله عز وجل بهذا في آية 157 و158 في سورة الأعراف. فمحمد عليه السلام قد نهى قومه عن المنكر في الآيات التالية من سورة الأعراف، تمامًا كما نهى شعيب عليه السلام قومه عن المنكر في آيات سورة هود: 

سُوۡرَةُ الاٴعرَاف
ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلرَّسُولَ ٱلنَّبِىَّ ٱلۡأُمِّىَّ ٱلَّذِى يَجِدُونَهُ مَكۡتُوبًا عِندَهُمۡ فِى ٱلتَّوۡرَٮٰةِ وَٱلۡإِنجِيلِ يَأۡمُرُهُم بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَيَنۡہَٮٰهُمۡ عَنِ ٱلۡمُنڪَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ ٱلطَّيِّبَـٰتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيۡهِمُ ٱلۡخَبَـٰٓٮِٕثَ وَيَضَعُ عَنۡهُمۡ إِصۡرَهُمۡ وَٱلۡأَغۡلَـٰلَ ٱلَّتِى كَانَتۡ عَلَيۡهِمۡ‌ۚ فَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِهِۦ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَٱتَّبَعُواْ ٱلنُّورَ ٱلَّذِىٓ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـٰٓٮِٕكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ (١٥٧) قُلۡ يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنِّى رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيۡڪُمۡ جَمِيعًا ٱلَّذِى لَهُ مُلۡكُ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلۡأَرۡضِ‌ۖ لَآ إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ يُحۡىِۦ وَيُمِيتُ‌ۖ فَـَٔامِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ ٱلنَّبِىِّ ٱلۡأُمِّىِّ ٱلَّذِى يُؤۡمِنُ بِٱللَّهِ وَڪَلِمَـٰتِهِۦ وَٱتَّبِعُوهُ لَعَلَّڪُمۡ تَهۡتَدُونَ (١٥٨).

وإذا قارنّا ما فعله محمد عليه السلام لقومه ولجميع الناس في هذه الآية (آية 157) من سورة الأعراف بما فعله شعيب عليه السلام لقومه في آية 88 من سورة هود، نجد تطابقًا كبيرًا في الفعل يدلنا على معنى صلواة شعيب وعلى كيفية إقامة شعيب الصلواة في قومِهِ، ويدلنا بالتالي على صلواة محمد وعلى كيفية إقامة محمد الصلواة في قومِهِ، ويدلنا أيضًا على أنَّ دين الله واحد لجميع أنبيائِهِ ورُسُلِهِ، وبالتالي الصلواة وإقامتها هي أيضًا واحدة للجميع. أرجو منكم الآن أن تقارنوا آيات سورة الأعراف بآيات سورة هود لكي تجدوا ما نهى محمد قومه عنه، وما نهى شعيب قومه عنه. 

سُوۡرَةُ هُود
وَإِلَىٰ مَدۡيَنَ أَخَاهُمۡ شُعَيۡبً۬ا‌ۚ قَالَ يَـٰقَوۡمِ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَڪُم مِّنۡ إِلَـٰهٍ غَيۡرُهُ ۥ‌ۖ وَلَا تَنقُصُواْ ٱلۡمِڪۡيَالَ وَٱلۡمِيزَانَ‌ۚ إِنِّىٓ أَرَٮٰڪُم بِخَيۡرٍ۬ وَإِنِّىٓ أَخَافُ عَلَيۡڪُمۡ عَذَابَ يَوۡمٍ۬ مُّحِيطٍ۬ (٨٤) وَيَـٰقَوۡمِ أَوۡفُواْ ٱلۡمِڪۡيَالَ وَٱلۡمِيزَانَ بِٱلۡقِسۡطِ‌ۖ وَلَا تَبۡخَسُواْ ٱلنَّاسَ أَشۡيَآءَهُمۡ وَلَا تَعۡثَوۡاْ فِى ٱلۡأَرۡضِ مُفۡسِدِينَ (٨٥) بَقِيَّتُ ٱللَّهِ خَيۡرٌ۬ لَّكُمۡ إِن ڪُنتُم مُّؤۡمِنِينَ‌ۚ وَمَآ أَنَا۟ عَلَيۡكُم بِحَفِيظٍ۬ (٨٦) قَالُواْ يَـٰشُعَيۡبُ أَصَلَوٰتُكَ تَأۡمُرُكَ أَن نَّتۡرُكَ مَا يَعۡبُدُ ءَابَآؤُنَآ أَوۡ أَن نَّفۡعَلَ فِىٓ أَمۡوَالِنَا مَا نَشَـٰٓؤُاْ‌ۖ إِنَّكَ لَأَنتَ ٱلۡحَلِيمُ ٱلرَّشِيدُ (٨٧) قَالَ يَـٰقَوۡمِ أَرَءَيۡتُمۡ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ۬ مِّن رَّبِّى وَرَزَقَنِى مِنۡهُ رِزۡقًا حَسَنً۬ا‌ۚ وَمَآ أُرِيدُ أَنۡ أُخَالِفَكُمۡ إِلَىٰ مَآ أَنۡهَٮٰڪُمۡ عَنۡهُ‌ۚ إِنۡ أُرِيدُ إِلَّا ٱلۡإِصۡلَـٰحَ مَا ٱسۡتَطَعۡتُ‌ۚ وَمَا تَوۡفِيقِىٓ إِلَّا بِٱللَّهِ‌ۚ عَلَيۡهِ تَوَكَّلۡتُ وَإِلَيۡهِ أُنِيبُ (٨٨).

وبما أنَّ صلواة شُعيب عليه السلام هي كتاب الله الّذي أنزله إليه والّذي يأمر بالإصلاح (الأمر بالمعروف وبالطيِّبات) وينهى عن الفساد (النهي  عن المنكر وعن الخبائِث)، وبما أنَّ كتاب الله هو دين الله، ودينُ الله هو دين الإسلام وهو واحد لجميع أنبيائِهِ ورُسُلِهِ كما بَيَّنْتُ لكُم في حَلَقاتي السابقة مِنها حلقات "ما معنى قرءان؟" وحَلَقَةْ "عدم التفرقة بين الأنبياء والرُّسُلْ"، إذًا فإنَّ صلواة جميع الأنبياء والرُّسُلْ هي كتاب الله أي الوحي الّذي أوحاهُ اللهُ عزَّ وجلّْ إلَيْهِمْ. إذًا فإنَّ صلواة مُحمَّد عليه السلام هي القرءان الكريم. والصلواة الّتي أقامها مُحمَّد صلوات الله عليه هي توصيل أي تبليغ رسالة القرءان لِقَومِهِ ولجميع الناس، وتطبيق جميع ما أمرهُ الله عزَّ وجلَّ في كل آية من آيات القرءان الكريم، تمامًا كما فعل شُعيب عليه السلام مع قومِهِ في الآيات السابقة الّتي تليتها عليكم.

 

لمتابعة الجزء الثاني عن هذا الموضوع (حقيقة الصلواة) أضغط على هذا الرابط: حقيقة الصلواة: هل هناك خمس صلوات فرض (2)؟

 

والسلام عليكم

  

 

25 May 19, 2016