مفهوم رمضان والصيام ظاهرًا وباطنًا في القرءان الكريم (4)

Raed's picture
Author: Raed / Date: Mon, 04/04/2016 - 01:37 /

 

مفهوم رمضان والصيام ظاهرًا وباطنًا في القرءان الكريم (4)

 

14. إثباتات أخرى في القرءان تُعطينا تعريفًا بيِّنًا للصيام:

لقد عرَّف الله تعالى لنا أيضًا معنى الصِيام في سورة المائِدة والمجادلة والنساء. وإذا تدبرنا تلك السُور، نجد بأنَّ الصيام هو أيضًا  كفارة عن ذنوب الإنسان بفدية طعام مسكين. إذًا فالصيام كما ذكرتُ في أول مقالتي هذه هو التكفير عن السيئات والمعاصي  والتوبة بإقامة الخير والإحسان، وهذا التكفير عن الذنب يتضمَّن إطعام مسكين (مساكين).

تلك السُور نجدها في التالي:

 سُوۡرَةُ المَائدة
يَـٰٓأَيُّہَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَقۡتُلُواْ ٱلصَّيۡدَ وَأَنتُمۡ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآءٌ مِّثۡلُ مَا قَتَلَ مِنَ ٱلنَّعَمِ يَحۡكُمُ بِهِۦ ذَوَا عَدۡلٍ مِّنكُمۡ هَدۡيَۢا بَـٰلِغَ ٱلۡكَعۡبَةِ أَوۡ كَفَّـٰرَةٌ طَعَامُ مَسَـٰكِينَ أَوۡ عَدۡلُ ذَالِكَ صِيَامًا لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمۡرِهِۦ‌ۗ عَفَا ٱللَّهُ عَمَّا سَلَفَ‌ۚ وَمَنۡ عَادَ فَيَنتَقِمُ ٱللَّهُ مِنۡهُ‌ۗ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ ذُو ٱنتِقَامٍ (٩٥).
 

في تلك الآية البينة نجد تعريفًا وتفصيلاً لِمعنى الصِيام بقول الله تعالى: "هَدۡيَۢا بَـٰلِغَ ٱلۡكَعۡبَةِ أَوۡ كَفَّـٰرَةٌ طَعَامُ مَسَـٰكِينَ أَوۡ عَدۡلُ ذَالِكَ صِيَامًا". إنَّ كفّارة قتل صيد البَّرّْ في الأشهر الحُرُم الأربعة، وإن كانت هذه الكفارة هَديًا بالغ الكعبة أي بالغ بيت الله (أي  بالغ الأرض، لِأنَّ الكعبة هي أرض الله)، أو كانت طعام مساكين، أو كانت عدل (أي ما تشابه منه من خير)، فإنَّ كُلُّ ذلك يُسَمَّى صِيامًا. والدليل قول الله تعالى: "ذلِكَ صِيامًا"، وإنَّ كلمة "ذلك" تعود للهدي أو لطعام مساكين أو لعدل، وهِيَ كلمة تعريفِيَّة لِلصِيام. إذًا فالصيام بشكل عام فيه إطعام ومساعدة مادِّية ومعنويَّة للمحتاجين.

مِمّا يدلنا على أنَّ الصِيام هو فعل الخير والإحسان (أي فدية طعام مسكين)، فهو يكون إمّا بِهديٍ يبلُغ الكعبة (أي الأرض)، أو بكفارة طعام مساكين، أو بعدل (أي ما تشابه منه من خير)، وإنَّ كل حالة من تلك الحالات الثلاث هو عمل خير ولذلك عرَّفهم الله تعالى بكلمة واحدة بقولِهِ: "ذَالِكَ صِيَامًا".

إنَّ المعنى الظاهر لقتل الصيد هو القتل المتعمد للحيوان وإزهاق دمه وتعذيبه من دون سبب (أي من دون حق)، وهذا يؤدي أيضًا  بالحيوان إلى الإنقراض. فالإنسان أفسد في الأرض وظلم أخاه الإنسان، ولم يكتفِ بهذا، ولكنَّهُ ظلم أيضًا الحيوان وأهلك الحرث والنسل، وما زال يفعل ذلك. أمّا المعنى التشبيهي لقتل الصيد ونحن حُرُم، فهو قتلنا ماديًّا ومعنويًّا للناس من المشركين والكفار عمدًا (بغير حق) في وقت وخلال إعطائِنا وتبليغنا لهم رسالة القرءان.

ملاحظة صغيرة: لقد حرَّم الله تعالى على الّذين ءامنوا صيد البَّر خلال الأشهر الحُرُم الأربعة الّتي كانوا فيها يسيحون في الأرض  لنشر وتبليغ رسالة القرءان، حمايةً إنسانية للحيوانات البرِّيَّة، ولكي لا تُقتل أو تُظلم أو تنقرض، ولكي تبقى تتزاوج وتتكاثر حفاظًا  على وجوديَّتها وعلى ميزان الطَّبيعة. وكما حمى الله تعالى الحيوان من التنكيل به وقتله، حمى أيضًا الإنسان، والعكس صحيح.

سُوۡرَةُ المَائدة
لَا يُؤَاخِذُكُمُ ٱللَّهُ بِٱللَّغۡوِ فِىٓ أَيۡمَـٰنِكُمۡ وَلَـٰكِن يُؤَاخِذُڪُم بِمَا عَقَّدتُّمُ ٱلۡأَيۡمَـٰنَ‌ۖ فَكَفَّـٰرَتُهُ إِطۡعَامُ عَشَرَةِ مَسَـٰكِينَ مِنۡ أَوۡسَطِ مَا تُطۡعِمُونَ أَهۡلِيكُمۡ أَوۡ كِسۡوَتُهُمۡ أَوۡ تَحۡرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمۡ يَجِدۡ فَصِيَامُ ثَلَـٰثَةِ أَيَّامٍ‌ۚ ذَالِكَ كَفَّـٰرَةُ أَيۡمَـٰنِكُمۡ إِذَا حَلَفۡتُمۡ‌ۚ وَٱحۡفَظُوٓاْ أَيۡمَـٰنَكُمۡ‌ۚ كَذَالِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمۡ ءَايَـٰتِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ (٨٩).

في آية 89 من سورة المائدة، نجد أنَّ كفارة اللغو في أيماننا (أي في خروجنا عن عهدنا أو ديننا) هو بالحج، لذلك قال الله تعالى: "فَكَفَّـٰرَتُهُ إِطعَامُ عَشَرَةِ مَسَـٰكِينَ مِنۡ أَوۡسَطِ مَا تُطۡعِمُونَ أَهۡلِيكُمۡ أَوۡ كِسۡوَتُهُمۡ أَوۡ تَحۡرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمۡ يَجِدۡ فَصِيَامُ ثَلَـٰثَةِ أَيَّامٍ‌ۚ"، تمامًا كما قال تعالى في آية 196 من سورة البقرة: "فَمَن لَّمۡ يَجِدۡ فَصِيَامُ ثَلَـٰثَةِ أَيَّامٍ فِى ٱلۡحَجِّ وَسَبۡعَةٍ إِذَا رَجَعۡتُمۡ‌ۗ تِلۡكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ".

سُوۡرَةُ البَقَرَة
وَأَتِمُّواْ ٱلۡحَجَّ وَٱلۡعُمۡرَةَ لِلَّهِ‌ۚ فَإِنۡ أُحۡصِرۡتُمۡ فَمَا ٱسۡتَيۡسَرَ مِنَ ٱلۡهَدۡىِ‌ۖ وَلَا تَحۡلِقُواْ رُءُوسَكُمۡ حَتَّىٰ يَبۡلُغَ ٱلۡهَدۡىُ مَحِلَّهُ ۥ‌ۚ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوۡ بِهِۦۤ أَذًى مِّن رَّأۡسِهِۦ فَفِدۡيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوۡ صَدَقَةٍ أَوۡ نُسُكٍ فَإِذَآ أَمِنتُمۡ فَمَن تَمَتَّعَ بِٱلۡعُمۡرَةِ إِلَى ٱلۡحَجِّ فَمَا ٱسۡتَيۡسَرَ مِنَ ٱلۡهَدۡىِ‌ۚ فَمَن لَّمۡ يَجِدۡ فَصِيَامُ ثَلَـٰثَةِ أَيَّامٍ فِى ٱلۡحَجِّ وَسَبۡعَةٍ إِذَا رَجَعۡتُمۡ‌ۗ تِلۡكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَالِكَ لِمَن لَّمۡ يَكُنۡ أَهۡلُهُ حَاضِرِى ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ‌ۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ (١٩٦). 

نجد من خلال آية 196 في سورة البقرة أنَّ الصيام والحج لهما مبدأ واحد لا ينفصل. فالحج وإعمار مساجد الله، أي الحج والإعمار والانتشار في كل مكان في الأرض هو إقامة الصيام وتطبيقه في الناس بهدف تبليغ رسالة القرءان لجميع الناس في هذه الأرض وإطعام المساكين والفقراء والمُحتاجين وإقامة الإصلاح عملِيًّا على أرض الواقع في كل مكان في هذه الأرض الّتي نعيش فيها، ولذلك فإنَّ الحج هو كلمة تعريفيَّة شاملة وتطبيقية للصيام تُقام في جميع أنحاء الأرض، ونستطيع أن نقول بأنَّ الحج وإعمار مساجد الله هو ابتغاء زيارة كتاب الله والدخول والإقامة فيه والتطبيق العملي أو الفعلي للقرءان لكل بائس ومُعتر ولكل مسكين يحتاج إلى مساعدة مادية أو معنوية في هذه الأرض ومن دون إستثناء.

سُوۡرَةُ المجَادلة
بِسۡمِ ٱللهِ ٱلرَّحۡمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ

قَدۡ سَمِعَ ٱللَّهُ قَوۡلَ ٱلَّتِى تُجَـٰدِلُكَ فِى زَوۡجِهَا وَتَشۡتَكِىٓ إِلَى ٱللَّهِ وَٱللَّهُ يَسۡمَعُ تَحَاوُرَكُمَآ‌ۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعُۢ بَصِيرٌ (١) ٱلَّذِينَ يُظَـٰهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَآٮِٕهِم مَّا هُنَّ أُمَّهَـٰتِهِمۡ‌ۖ إِنۡ أُمَّهَـٰتُهُمۡ إِلَّا ٱلَّـٰٓـِٔى وَلَدۡنَهُمۡ‌ۚ وَإِنَّہُمۡ لَيَقُولُونَ مُنڪَرًا مِّنَ ٱلۡقَوۡلِ وَزُورًا‌ۚ وَإِنَّ ٱللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (٢) وَٱلَّذِينَ يُظَـٰهِرُونَ مِن نِّسَآٮِٕہِمۡ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ فَتَحۡرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبۡلِ أَن يَتَمَآسَّا‌ۚ ذَالِكُمۡ تُوعَظُونَ بِهِۦ‌ۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٌ (٣) فَمَن لَّمۡ يَجِدۡ فَصِيَامُ شَہۡرَيۡنِ مُتَتَابِعَيۡنِ مِن قَبۡلِ أَن يَتَمَآسَّا‌ۖ فَمَن لَّمۡ يَسۡتَطِعۡ فَإِطۡعَامُ سِتِّينَ مِسۡكِينًا‌ۚ ذَالِكَ لِتُؤۡمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ‌ۚ وَتِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِ‌ۗ وَلِلۡكَـٰفِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٤).

سورة المجادلة أُنزِلَتْ عندما ذهبت إمرأة مؤمنة إلى الرسول لكي تُجادِلُهُ (تُشاوِرُهُ) في زوجها وتشتكي إلى الله. لقد ذهبت لتستشير الرسول محمد عليه السلام فيما تستطيع فعله في مُظاهرة زوجها منها، أي في وقوفه ضِدَّها ومُعاداتها في الدّين وفي إيمانها بالله وبالرَّسول، وبقولِهِ للمنكر من القول والزّور. أي ذهبت تشتكي إلى الله للرسول محمد من كُفر زوجها وخُروجه عن دّين الله ومُعاداتها فيه. فأخبرها الله تعالى في سورة المجادلة بأنَّه إذا أراد زوجها أن يتوب إلى الله ويُكفِّر عن ذنبِهِ ويَحِلُّ له امرأته بعد أن حرَّمها عليه، فعليه أن يُطبِّق ما أمره الله عز وجل بِهِ في آية 3 و4: "وَٱلَّذِينَ يُظَـٰهِرُونَ مِن نِّسَآٮِٕہِمۡ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ فَتَحۡرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبۡلِ أَن يَتَمَآسَّا‌ۚ ذَالِكُمۡ تُوعَظُونَ بِهِۦ‌ۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٌ (٣) فَمَن لَّمۡ يَجِدۡ فَصِيَامُ شَہۡرَيۡنِ مُتَتَابِعَيۡنِ مِن قَبۡلِ أَن يَتَمَآسَّا‌ۖ فَمَن لَّمۡ يَسۡتَطِعۡ فَإِطۡعَامُ سِتِّينَ مِسۡكِينًا‌ۚ ذَالِكَ لِتُؤۡمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ‌ۚ وَتِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِ‌ۗ وَلِلۡكَـٰفِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٤)".

في تلك الآيتان (آية 3 و4)، نجد بأنَّ تحرير الرَّقبة يكون من قبل أن يَتماسَّا، فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين ويكون أيضًا من قبل أن يتماسّا، فمن لم يستطع فإطعام سِتِّين مسكينًا وهُنا لَم يَقُلِ اللهُ تعالى "من قبلِ أن يَتَماسّا". في آية 4 نجد أنَّ هناك صيام شهرين متتابعين، وإطعامُ ستين مسكينًا. وإذا تعمّقنا جيدًا في تلك الآيتين، نجد أيضًا قول الله تعالى: "متتابعين" و"من قبل أن يتماسّا". إنَّ صيام شهرين متتابعين هو نفسه إطعام ستين مسكينًا، فمن لم يستطع مادِّيًا أن يصوم شهرين متتابعين أي أن يطعِمَ سِتين مسكينًا كل يوم بتتابع خلال شهرَين، فعليهِ بصيام شهرين ولكن غير مُتَتابعين، أي عليه إطعام سِتين مسكينًا في أيامٍ مختلفة خلال سنة أو سنتين أو أكثر حسب وضعه المادِّي، لذلك لم يقل الله تعالى "مِنْ قَبْلِ أن يتماسّا". وهذا أكبر دليل على أنَّ الصيام هو فدية طعام مسكين.

إذًا فإنَّ إطعام سِتّينَ مِسكينًا هو في الحقيقة صِيام شهرين مُتتابعين، الفارق الوحيد بينهما هو أنَّ الّذي لا يستطيع صِيام شهرين كل يوم بتتابع (أي الّذي لا يستطيع إطعام ستين مِسكينًا في كل يوم بتتابع) كما قال تعالى: "فَصِيَامُ شَہۡرَيۡنِ مُتَتَابِعَيۡنِ"، فعليه أن يُطعِم السِّتين مِسكينًا في أوقات أخرى مُتفرِّقة وليست مُتتابعة كما قال تعالى: "فَإِطۡعَامُ سِتِّينَ مِسۡكِينًا".

سُوۡرَةُ النِّسَاء
وَمَا كَانَ لِمُؤۡمِنٍ أَن يَقۡتُلَ مُؤۡمِنًا إِلَّا خَطَـًٔا‌ۚ وَمَن قَتَلَ مُؤۡمِنًا خَطَـًٔا فَتَحۡرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤۡمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰٓ أَهۡلِهِۦۤ إِلَّآ أَن يَصَّدَّقُواْ‌ۚ فَإِن كَانَ مِن قَوۡمٍ عَدُوٍّ۬ لَّكُمۡ وَهُوَ مُؤۡمِنٌ فَتَحۡرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤۡمِنَةٍ وَإِن ڪَانَ مِن قَوۡمِۭ بَيۡنَڪُمۡ وَبَيۡنَهُم مِّيثَـٰقٌ فَدِيَةٌ  مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰٓ أَهۡلِهِۦ وَتَحۡرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤۡمِنَةٍ فَمَن لَّمۡ يَجِدۡ فَصِيَامُ شَهۡرَيۡنِ مُتَتَابِعَيۡنِ تَوۡبَةً مِّنَ ٱللَّهِ‌ۗ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيمًا حَڪِيمًا (٩٢).

في تلك الآية البيِّنة تجدون أنَّ كفّارة المؤمن الّذي يقتل عن غير قصد أو عمد هو بتحرير رقبة أو بدية مسلَّمة أو بصيام شهرين متتابعين. فإذا كان تحرير الرقبة والدِّية المُسلَّمة هما بهدف الخير والإحسان والنفقة، إذًا فإنَّ صيام شهرين متتابعين هو بالتأكيد بهدف الإحسان والنفقة. الفارق الوحيد هو أنَّ الّذي لم يجد رقبة مؤمنة يُحرِّرُها، فعليه أن يصوم 60 يومًا متتابعين أي عليه أن يُطعِم مسكينًا أو مساكين كل يوم ولمدة 60 يومًا بالتتابع. إذًا فالكفارة تكون بعمل خير ظاهرًا أو باطنًا، وهذا هو مفهوم الصيام. تجدون أيضًا في هذه الآية بأنَّ الصيام هو شهرين مُتتابعين، أي إطعام ستينَ مِسكينًا كل يوم بتتابع خلال شهرين.

إذا أردتُ أن أختصر بكلمتين مفهوم الصيام من خلال جميع تلك الآيات البينات السابقة الّتي عُرِّف فيها الصيام بالكفّارة، فإنّي أستطيع أن أقول بأنَّ مبدأ الصِيام للّذي يُطيقُهُ (أي للّذي يقدِرْ عليه، أي للّذي آمن بالقرءان)، أو للّذي كفَرَ ثُمَّ تاب فعاد إلى الإيمان بالقرءان، أو للّذي يُريد أن يُكفِّرْ عن ذنبِهِ ويتوب لأنه قتل مؤمنًا خطئًا، هوَ فعل الخير والإحسان ومساعدة المساكين والمحتاجين  (بمعناه الظاهر والباطن) حتى نزكّي (نطهِّر) أنفسنا من السيِّئات والذنوب والمعاصي. إذًا فإنَّ الصيام يكون بتعلُّم القرءان أي بتعلم الخير من آيات القرءان بهدف الامتناع عن فعل الشر وطهارة النفس بهدف تطبيق تلك الآيات والعمل بها. وتطبيق الصيام لِلّذي يقدر عليه يكون بإقامة الصلواة أي بالإحسان إلى المساكين وفعل الخيرات وبتبليغ رسالة القرءان، فيكون الله تعالى بذلك قد أخرجنا من الظلمات (جهنم) إلى النور (الجنة).

السؤال هو: لماذا أعطانا الله عز وجل الفرصة للتكفير عن ذنوبنا في هذه الأرض بعمل الخير والإحسان؟ وكيف نستطيع أن نُكفِّر عن ذنوبنا بهذه الطريقة؟ وما معنى الكفارة والهدف منها؟

الجواب هو: إنَّ التكفير عن الذنوب بإقامتنا للخير والإحسان وبمساعدتنا للمساكين ماديًّا ومعنويًّا هو ليس من أجل الله، ولكنه من أجل أنفسنا. فالله تعالى لن ينال من فعلنا الخير وإطعامنا المساكين أي شيء، كما أخبرنا في آية 37 من سورة الحج:

سُوۡرَةُ الحَجّ
لَن يَنَالَ ٱللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَآؤُهَا وَلَـٰكِن يَنَالُهُ ٱلتَّقۡوَىٰ مِنكُمۡ‌ۚ كَذَالِكَ سَخَّرَهَا لَكُمۡ لِتُكَبِّرُواْ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَٮٰكُمۡ‌ۗ وَبَشِّرِ ٱلۡمُحۡسِنِينَ (٣٧).

إذًا فالكفارة هي بمثابة مُساعدة نفسية ومعنوية تهدف إلى إعادة تقوانا لله وبالتالي إنسانيَّتنا لأنفسنا من بعد أن فقدناها بسبب أعمالنا السّيئة الّتي قُمنا بها. وكذلك تهدف إلى التخفيف عنّا شعورنا بالذنب وتأنيب الضمير (مثالاً لذلك كقتل نفس بغير قصد)، لِكي نستطيع أن نُسامِح أنفسنا عن أي عمل سيّء قمنا بِهِ من خلال عمل آخر حسن (فيه إحسان) نقوم بِهِ، فلا نفقُد بذلك إنسانيَّتنا. لأنَّ أعمال الخير والإحسان مهما كان نوعها إذا كان هدفها صادق وسليم، فإنها تجعل الإنسان المُذنب والّذي أراد أن يتوب، يشعر بالسعادة في قلبِهِ وبالخير يعود إلى نفسِهِ. وصدق الله تعالى في قوله في آية 114 من سورة هود: "إنَّ الحسنات يُذهِبنَ السِّئات".

هذا مثلٌ واحد من أمثال الله سبحانه وتعالى عن علم النفس البشرية الّذي علَّمنا إيّاهُ ووضعه لنا في آيات كثيرة من آيات القرءان الكريم.

15.  باختصار مُفيد:

1) إنَّ إكمال العدة هو إكمال علم القرءان كاملاً، أي هو أخذ وتعلم القرءان كاملاً بهدف تكبير الله وشُكرهُ أي بهدف إقامة الصلواة أي إقامة القرءان بين الناس.

2) شهد منكم الشهر = شهد منكم الكتاب أي القرءان = أخذ ورأى وتعلم علم القرءان كاملاً، لأنَّ الله تعالى أنزل القرءان كاملاً في مدة شهر.

3) شهر رمضان هو كناية عن الوقت الّذي نزل فيه القرءان على الرسول محمد عليه السلام في قومه آنذاك، وكان هذا الوقت في زمن الرسول هو الوقت الّذي منَّ الله تعالى فيه على محمد وقومه لهدايتهم. فمثلاً شهر رمضان بالنسبة لي هو الوقت الّذي منَّ الله تعالى عَلَيَّ وهداني فيه إلى علم القرءان، ولقد شهدتُ الشهر منذ أكثر من 10 سنوات وما زلت أشهده حتّى الآن، وهذا يعني أنَّ صيامي (أي ابتعادي عن جهنم) قد بدأ لنقل منذ 10 سنوات وما زال قائمًا حتّى الآن، وأتمنى وأرجو من الله عز وجل أن يبقى صيامي بمشيئتِهِ تعالى قائِمًا إلى حين ينتهي أجلي. وأنتم تشهدون الشهر منذ الوقت الّذي يهديكم الله تعالى إلى قرءانِهِ، وهو الوقت الّذي فيه يكون صيامكم (أي ابتعادكم عن جهنم) قد بدأ، وإذا داومتم على القرءان فسوف يبقى صيامكم قائِمًا. إذًا فنحن لا نصوم في نفس الوقت، لأنَّ كل إنسان فينا يبدأ صيامه عندما يهديه الله تعالى للقرءان. وهذا يعني أنَّ الصيام لا يُحدد بشهر مُعيَّن، لأنَّ الوقت الّذي يهدي الله تعالى فيهِ الناس يختلف من إنسان إلى آخر. وإنَّ كلمة شهر في القرءان ليس الهدف منها في الحقيقة أن نصوم في شهر مُعيَّن، ولكنَّ الشهر هو كناية عن نزول القرءان كاملاً خلال 30 يومًا، وتذكرةً لنا بقيمة هذا الشهر العظيم الّذي فيهِ نزل القرءان. ونحن إذا شهدنا الشهر نكون قد شهدنا علم القرءان كاملاً حتّى ولو كان وقت معرفتنا لعلم القرءان قد أخذ مثلاً سنتين أو ثلاثة أو أربع سنوات. فالرسول محمد عليه السلام وقومه قد شهدوا الشهر لسنوات عديدة. ونحن عندما نشهد الشهر فعلينا أن نصُمْهُ بالقرءان، أي علينا أن نبتعد عن طريق الشر والظلم والفساد من خلال تعلمنا وتطبيقنا للقرءان، وعلينا الإبقاء أي الحفاظ على صيامنا إلى آخر حياتنا.

4) الصيام = الإمتناع عن جهنم = الإمتناع عن الذنوب والمعاصي = دخول الجنة.
فليصمه = فليمتنع عن الذنوب والشر والمعاصي بأكله وشربِهِ من القرءان.

5) "فَمَن شَہِدَ مِنكُمُ ٱلشَّہۡرَ فَلۡيَصُمۡهُ‌": إنَّ كلمة "شَهِدَ" لا تعني شَاهَدَ، مِمّا ينفي تحديد وقت الصيام برؤية القمر. وإنَّ كلمة "منكم" هي حالة إستثنائِيَّة، وهذا ما أخبرتكم بِهِ، أنَّه ليس بالضرورة أن نشهد الشهر في نفس الوقت، وهناك احتمال كبير أيضًا  أن لا نشهد الشهر أبدًا في حياتنا، وهذا هو في الحقيقة ما يحدث في هذه الأرض بالنسبة لأكثر الناس، لأنَّ أكثرهم لا يُريدون الهداية والإمتناع (الصيام) عن فعل السيِّئات (جهنم) ولذلك لن يهديهم الله تعالى إلى قرءانِهِ، وبالتالي فلن يشهدوا الشهر.

6) إنَّ ليلة القدر هي ليلة نزول القرءان أو التوراة أو الإنجيل سابقًا، وليس بالضرورة أن يكون نزول القرءان لمحمد هو في نفس الوقت الّذي نزلت فيه التوراة لموسى أو نزل فيه الإنجيل لعيسى. فالوقت الّذي شهد محمد فيه الشهر ليس بالضرورة أن يكون نفس الوقت الّذي شهد فيه موسى أو عيسى الشهر، فكل رسول كان له وقته الخاص للهداية، وكل أمَّة كان لها وقتها الخاص للهداية. فمثلاً عيسى عليه السلام قد شهد الشهر وهو في رحم أمِّهِ مريم خلافًا لموسى أو لمحمد. وإنَّ ليلة القدر هي كل ليلة كان الله تعالى يوحي فيها كتبه إلى أنبيائِهِ ورُسُلِهِ. وبالنسبة للقرءان فإنَّ ليلة القدر كانت 30 يومًا أو شهرًا كاملاً، وبالنسبة لموسى كانت 30 يومًا أتمَّها الله تعالى ب10 أيام إضافية فأصبحت 40 يومًا، وبالنسبة لعيسى كانت الأشهر الّتي كان فيها في رحم أمِّهِ مريم (سلام على جميع الأنبياء والمرسلين).

7) إذا تدبَّرنا آية 12 من سورة الإسراء، نجد أنَّ الله تعالى أرادنا أن نحسب الأشهر بواسطة الشمس وليس بواسطة القمر. هذا يدلُّنا على أنَّ مفهوم شهر رمضان هو ليس كما يظن أكثر المسلمون، مِمّا يُثبت لكم أيضًا ما ذكرتُهُ عن معنى شهر رمضان.

سُوۡرَةُ الإسرَاء
وَجَعَلۡنَا ٱلَّيۡلَ وَٱلنَّہَارَ ءَايَتَيۡنِ‌ۖ فَمَحَوۡنَآ ءَايَةَ ٱلَّيۡلِ وَجَعَلۡنَآ ءَايَةَ ٱلنَّہَارِ مُبۡصِرَةً لِّتَبۡتَغُواْ فَضۡلاً مِّن رَّبِّكُمۡ وَلِتَعۡلَمُواْ عَدَدَ ٱلسِّنِينَ وَٱلۡحِسَابَ‌ۚ وَڪُلَّ شَىۡءٍ فَصَّلۡنَـٰهُ تَفۡصِيلاً (١٢).

آية الّيل هي آية القمر، وآية النهار هي آية الشمس.

 

16.  ما حقيقة وسبب صوم مريم عليها السلام؟

أمّا بالنسبة لِصوم مريم عليها السلام، فلقد كان صيامًا مُختلِفًا عن الصيام الّذي ذُكِرَ في هذه المقالة حدَّده الله تعالى بالصوم عن الكلام، يُترجم بامتناع مريم عليها السلام عن الكلام مع الناس. والعبرة منه نجدها من خلال آيات الله البيّنات في سورة مريم:

سُوۡرَةُ مَریَم
فَكُلِى وَٱشۡرَبِى وَقَرِّى عَيۡنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ ٱلۡبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِىٓ إِنِّى نَذَرۡتُ لِلرَّحۡمَـٰنِ صَوۡمًا فَلَنۡ أُڪَلِّمَ ٱلۡيَوۡمَ إِنسِيًّا (٢٦) فَأَتَتۡ بِهِۦ قَوۡمَهَا تَحۡمِلُهُ قَالُواْ يَـٰمَرۡيَمُ لَقَدۡ جِئۡتِ شَيۡـًٔا فَرِيًّا (٢٧) يَـٰٓأُخۡتَ هَـٰرُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ ٱمۡرَأَ سَوۡءٍ وَمَا كَانَتۡ أُمُّكِ بَغِيًّا (٢٨) فَأَشَارَتۡ إِلَيۡهِ‌ۖ قَالُواْ كَيۡفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِى ٱلۡمَهۡدِ صَبِيًّا (٢٩) قَالَ إِنِّى عَبۡدُ ٱللَّهِ ءَاتَٮٰنِىَ ٱلۡكِتَـٰبَ وَجَعَلَنِى نَبِيًّا   (٣٠) وَجَعَلَنِى مُبَارَكًا أَيۡنَ مَا ڪُنتُ وَأَوۡصَـٰنِى بِٱلصَّلَوٰةِ وَٱلزَّڪَوٰةِ مَا دُمۡتُ حَيًّا (٣١) وَبَرَّۢا بِوَالِدَتِى وَلَمۡ يَجۡعَلۡنِى جَبَّارًا شَقِيًّا (٣٢) وَٱلسَّلَـٰمُ عَلَىَّ يَوۡمَ وُلِدتُّ وَيَوۡمَ أَمُوتُ وَيَوۡمَ أُبۡعَثُ حَيًّا (٣٣).

في تلك الآيات البيّنات أراد الله تعالى أن يُعطي مريم عليها السلام الثِّقة والقوة أمام قومها، لأنه تعالى أراد أن يُرسِلها إلى قومها مُباشرةً بعد ولادتها لِعيسى عليه السلام، لأنَّ قومها لم يكونوا على علم بِحملها ووِلادتها من دون أب. فالله تعالى علِمَ أنَّ قومها لن يُصدِّقوها وسوف يُوجهون لها الإتهامات بالسوء والبغاء وسوف يؤذونها، ولذلكَ أراد الله تعالى أن يُخفف عنها آلامها النفسية ويُذهِبْ عنها أذى قومها وخوفها منهم ويُبَرِّأها أمامهم بواسطة إبنها عيسى عليه السلام من خلال صومها أي إمتناعها عن الكلام مع قومها أو حتّى عن إجابتهم، ومن خلال مُعجزة كلام وجواب عيسى (عليه السلام) لقومه وهو في المهد بدلاً عن أمه مريم (عليها السلام) لِكَيْ يُصدِّقوا أنَّ عيسى هو كلمة الله (أي كتاب الله، أي الإنجيل)، ولذلك خلقه الله تعالى يُكلِّم الناس في المهد وكهلاً، لأنه كان هو الإنجيل أي الكتاب.

ولذلك فعندما أتت مريم قومها بِعيسى تحمِلُهُ، "قَالُواْ يَـٰمَرۡيَمُ لَقَدۡ جِئۡتِ شَيۡـًٔا فَرِيًّا، يَـٰٓأُخۡتَ هَـٰرُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ ٱمۡرَأَ سَوۡءٍ وَمَا كَانَتۡ أُمُّكِ بَغِيًّا"، فماذا فعلت مريم عليها السلام؟ الجواب هو، لقد صامت عن الكلام أو الجواب. كيف؟ "فَأَشَارَتۡ إِلَيۡهِ‌"، أي طلبت منهم أن يُكلِّموا عيسى (عليه السلام) لكَي لا تُجيبهم هي بنفسها. فبماذا أجابها قومها؟ "قَالُواْ كَيۡفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِى ٱلۡمَهۡدِ صَبِيًّا". فأجابهم عيسى وهو في المهد تبرأةً لِأمِّهِ وآيةً لِقومِهِ بقولِهِ لهم: "إِنِّى عَبۡدُ ٱللَّهِ ءَاتَٮٰنِىَ ٱلۡكِتَـٰبَ وَجَعَلَنِى نَبِيًّا، وَجَعَلَنِى مُبَارَكًا أَيۡنَ مَا ڪُنتُ وَأَوۡصَـٰنِى بِٱلصَّلَوٰةِ وَٱلزَّڪَوٰةِ مَا دُمۡتُ حَيًّا، وَبَرَّۢا بِوَالِدَتِى وَلَمۡ يَجۡعَلۡنِى جَبَّارًا شَقِيًّا، وَٱلسَّلَـٰمُ عَلَىَّ يَوۡمَ وُلِدتُّ وَيَوۡمَ أَمُوتُ وَيَوۡمَ أُبۡعَثُ حَيًّا".

هذا هو السبب الحقيقي الّذي من أجلِهِ صامت مريم عليها السلام عن الكلام والحديث مع قومها. إذًا فصيام مريم عليها السلام كان صيامًا مؤقتًّا ولِدقائق قليلة، يهدُف إلى تبرأة مريم وإلى التصديق بالإنجيل (عيسى) من خلال كلام عيسى مع قومه وهو في المهد.

 

17.  ما سبب إمتناع (صوم) زكريا عليه السلام عن الكلام؟

أمّا بالنسبة لصيام زكريا عليه السلام فلقد كان مُختلفًا بمغزاه عن صيام مريم عليها السلام. لقد كان صيام زكريا هو صومٌ لمدة  3 أيام عن الكلام إلاَّ رمزًا. والمغزى منه نجده في آيات في سورة مريم وسورة آل عمران:

سُوۡرَةُ مَریَم
يَـٰزَڪَرِيَّآ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَـٰمٍ ٱسۡمُهُ يَحۡيَىٰ لَمۡ نَجۡعَل لَّهُ مِن قَبۡلُ سَمِيًّا (٧) قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِى غُلَـٰمٌ وَڪَانَتِ ٱمۡرَأَتِى عَاقِرًا وَقَدۡ بَلَغۡتُ مِنَ ٱلۡڪِبَرِ عِتِيًّا (٨) قَالَ كَذَالِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَىَّ هَيِّنٌ وَقَدۡ خَلَقۡتُكَ مِن قَبۡلُ وَلَمۡ تَكُ شَيۡـًٔا (٩) قَالَ رَبِّ ٱجۡعَل لِّىٓ ءَايَةً قَالَ ءَايَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ ٱلنَّاسَ ثَلَـٰثَ لَيَالٍ سَوِيًّا (١٠) فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوۡمِهِۦ مِنَ ٱلۡمِحۡرَابِ فَأَوۡحَىٰٓ إِلَيۡہِمۡ أَن سَبِّحُواْ بُكۡرَةً وَعَشِيًّا (١١).

سُوۡرَةُ آل عِمرَان
هُنَالِكَ دَعَا زَڪَرِيَّا رَبَّهُ ۥ‌ۖ قَالَ رَبِّ هَبۡ لِى مِن لَّدُنكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً‌ۖ إِنَّكَ سَمِيعُ ٱلدُّعَآءِ (٣٨) فَنَادَتۡهُ ٱلۡمَلَـٰٓٮِٕكَةُ وَهُوَ قَآٮِٕمٌ يُصَلِّى فِى ٱلۡمِحۡرَابِ أَنَّ ٱللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحۡيَىٰ مُصَدِّقَۢا بِكَلِمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ ٱلصَّـٰلِحِينَ (٣٩) قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِى غُلَـٰمٌ وَقَدۡ بَلَغَنِىَ ٱلۡڪِبَرُ وَٱمۡرَأَتِى عَاقِرٌ قَالَ كَذَالِكَ ٱللَّهُ يَفۡعَلُ مَا يَشَآءُ (٤٠) قَالَ رَبِّ ٱجۡعَل لِّىٓ ءَايَةً قَالَ ءَايَتُكَ أَلَّا تُڪَلِّمَ ٱلنَّاسَ ثَلَـٰثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمۡزًا‌ۗ وَٱذۡكُر رَّبَّكَ ڪَثِيرًا وَسَبِّحۡ بِٱلۡعَشِىِّ وَٱلۡإِبۡڪَـٰرِ (٤١).

في تلك الآيات البيِّنات يُعلِّمُنا الله تعالى عِلم الوقت أو المدَّة الّتي فيها يتُم أو يثبُت الحَمل عند المرأة (وهذه آية عِلمِيَّة).

إذا نظرنا في عِلم البيولوجيا والأجِنَّة، نجد أنَّ بُويضة أو نطفة الأُنثى تُلقَّح أو تُمنى خلال 24 ساعة (أي خلال يوم)، وبعدها يحدُثْ تغيير في جسد المرأة بإفراز هورمون إسمُهُ:

(Early Pregnancy Factor (EPF

وهذا الهرمون يُفرز مُباشرةً بعد مُدة التلقيح وينتقل ويكون في الدم في مدة ما بين 24 ساعة إلى 48 ساعة (أي في وقت أقصاهُ يومين)، ومُهِمَّتُهُ هو مُساعدة جِهاز المناعة عند الأنثى الحامِل حتى يستطيع جسدها أن يتقبل الحَمل، فيثبت الحمل. والمرأة الحامِل تستطيع في الحقيقة أن تعلم أنها حامل بعد مرور 3 أيام للحمل من خلال بوادر أعراض (Symptoms)، أو بواسطة فحص الدَّم، ولكِن هذا الفحص لا تستخدِمه المُختبرات لأنه مُكلِف، فالأطباء لا يجدوا أية ضرورة لاستخدامه، فهم يُفضِّلون الإنتظار مدة أطول لِفحص المرأة للتأكد من حملها بواسطة فحص هرمون خاص آخر يظهر في البول بعد مًدة.

إذًا فإنّ المرأة تحتاج إلى إنتظار 3 أيام (أو 3 ليالي) لِكَيْ يثبُت الحمل عندها، أي لِكي تٌلقح البويضة في يوم ولِكَي يتقبل جسدها الحمل في يومين. وأنا لا أجد جوابًا أو منطِقًا أعلى أو أقوى من هذا الجواب والمنطق.

لقد أراد الله تعالى أن يُطلِعُنا ويُطلع جميع الناس في جميع العصور والأزمان على عِلم في غاية الأهمية، ولذلك كان جوابُهُ لِزكريّا عليه السلام عندما طلب منه زكريا "أن يجعل لَهُ آية"، أي "أن يُعطيهِ دليلاً أو إثباتًا أو عِلمًا لإتمام الحمل"، وهو "أن لا يُكلِّمَ الناس ثلاث ليالٍ سوِيًّا"، أو "أن لا يكلِّم الناس ثلاثةَ أيّامٍ إلاَّ رمزًا"، أي أن ينتظر ثلاثة أيام قبل أن يُبشِّرَ قومه بِحمل إمرأته لِكي يتأكد من وقوع الحمل، لأنَّ إمرأته كانت معروفة في قومها أنَّها عاقر، فلن يُصدِّقوهُ إلاَّ أن يأتي لهم بالدليل، ولذلك كان عليه أن ينتظر ثلاثةَ أيّامٍ قبل أن يأتيهم بالدليل، فيُثبِت لهُم بذلك قوة وإرادة الله تعالى في حمل إمرأتِهِ العاقر الّذي يهدُف لِخلق يِحييَ وبعثِهِ في قومِهِ. لذلك انتظر ثلاثة أيام أو ثلاث ليالٍ بعد مُجامعته لامرأته ولم يُحدِّث أحدًا في هذا الأمر، بل لم يُحدِّث أحدًا من قومه بما أوحاه الله تعالى إليه بواسطة الملآئكة إلاَّ رمزًا، لأنَّ قومه لن يُصدِّقوا أنَّ الله عز وجل أراد أن يهب له غلامًا زكِيًّا من امرأته العاقر إلاَّ بعد مرور 3 ليالٍ يُثْبَتُ بعدهم حملها، وخاصَّةُ أنّ هذا الغلام سوف يكون نبِيًّا لهم ومُصدِّقًا بعيسى أي بكتاب الإنجيل عندما يبعثه الله. ويظهر أنَّ مرور 3 ليالٍ سوِيًّا هي الوسيلة العلمية الوحيدة الّتي كان يستخدمها قوم زكريّا في زمنهم في ذلك الوقت للتأكد من حمل المرأة، وذلك من خلال بوادر أعراض للحمل (Symtoms). لذلك وبعد مرور 3 أيام خرج على قومِهِ لِكَيْ يُبشِّرهم بِيِحيي عليه السلام نبيًا لهُم ومُصدِّقًا بِكلمةٍ من الله (أي مُصدِّقًا بالإنجيل)، ولذلك قال تعالى في آية 11 من سورة مريم: "أنَّ زكريّا خرج على قومِهِ من المحراب فأوحى إليهم أن سبِّجوا بكرةً وعشيًا".
 

18.  في الختام:

يقولون بأنَّ رمضان كريم. هل الكرم يكون كرمًا حين نضع موائِد الطعام كُلّْ ليلة وفيها ما تشتهي وتلذُّ الأعين، بينما الَّذين ملكت أيماننا من المساكين والمحتاجين ليس لهم نصيب في تلك الموائِد؟ أم أنَّ الكرم يكون كرمًا عندما نرزق طعامنا وشرابنا لِمن هُو بِأمَسِّ الحاجة إلَيْه في هذا الشهر وفي جميع أشهُرِ السَّنة؟

الجواب بسيط جدًا ومعروف عند الَّذين يؤمنون فقط بالقرءان الكريم، وهو أنَّ الكرم لا يكون كرمًا إلاّ عندما نُطعِم ونُسقي المساكين من رزق الله الّذي رزقنا إيّاهُ (بمعناه الماديّ والمعنويّ). أمّا بالنسبة لِلَّذين يؤمنون بالأحاديث والشريعة والتفاسير الكاذِبة، فلا يكون الكرم كرمًا إلاّ في نصب موائِد الأطعِمة والأشربة، وباستِضافتهم على الإفطار لبعضهم البعض للتفاخُر بينهم ولأخذ الأجر من بعضهم، وبإسرافهم في الأكل والشرب، بينما الفقراء والمساكين واليتامى والمحتاجين يموتون من الجوع والعطش. ألا لعنة الله على المُسرفين...

 يقولون أيضًا بِإن الله تعالى يُضاعِف لنا الحسنات في شهر رمضان. بِاللهِ عَليْكُم أخبِرونا، كيف يكون إمساكنا عن الأكل والشرب فيهِ حسنات لنا؟

والأهم من ذلك يقولون بِأنّه علينا أن نختم القرءان في شهر رمضان بالمفهوم العامي الشائع الّذي تعلمناه من دين ءابآئنا، فنأخذ بذلك حسنات كثيرة. كيف يكون ختم القرءان فيه حسنات لنا من دون أن نفهمه أو نعقِلهُ أو نعمل به؟ فإذا كُنّا لا نعلم طِوال تلك السنوات معنى الصيام وإقامته كما أمرنا الله تعالى في القرءان الكريم بالرُّغمِ من ختمنا له لعشرات المَرّات، فبماذا أفادَنَا خَتْمِ القرءان العظيم؟

 

19. في النهاية، بما أنَّ الله عز وجل أنزل علينا وعلى جميع الأمم السابقة واللآحقة (من أول خلق الإنسان إلى آخر خلقِهِ) كتابًا  واحدًا ودينًا واحدًا وشريعةً واحدةً، يُصبِح بذلك الصيام وكيفية إقامته واحدًا لجميع الأمم، ومن دون استثناء. ولذلك بدأ الله تعالى آياتِهِ في سورة البقرة بآية (183) بقوله فيها: "يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيۡڪُمُ ٱلصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِڪُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ (١٨٣)".

ونحنُ إذا توقفنا عن الصيام الباطل واتبعنا الصيام الحق، فلن يسألنا أو يُحاسبنا الله عز وجل على ذلك، لأنَّهُ لم يبيِّن لنا هذا الصيام الباطل في كتابِهِ العزيز. وصدق الله سُبحانه وتعالى في قولِهِ:

 سُوۡرَةُ الاٴعرَاف
ٱتَّبِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَيۡكُم مِّن رَّبِّكُمۡ وَلَا تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِۦۤ أَوۡلِيَآءَ‌ۗ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ (٣).

سُوۡرَةُ البَقَرَة
تِلۡكَ أُمَّةٌ قَدۡ خَلَتۡ‌ۖ لَهَا مَا كَسَبَتۡ وَلَكُم مَّا كَسَبۡتُمۡ‌ۖ وَلَا تُسۡـَٔلُونَ عَمَّا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ (١٣٤).

 سُوۡرَةُ لقمَان
أَلَمۡ تَرَوۡاْ أَنَّ ٱللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِى ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَمَا فِى ٱلۡأَرۡضِ وَأَسۡبَغَ عَلَيۡكُمۡ نِعَمَهُ ظَـٰهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُجَـٰدِلُ فِى ٱللَّهِ بِغَيۡرِ عِلۡمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَـٰبٍ مُّنِيرٍ (٢٠) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ٱتَّبِعُواْ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ قَالُواْ بَلۡ نَتَّبِعُ مَا وَجَدۡنَا عَلَيۡهِ ءَابَآءَنَآ‌ۚ أَوَلَوۡ ڪَانَ ٱلشَّيۡطَـٰنُ يَدۡعُوهُمۡ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلسَّعِيرِ (٢١).

 

20. مختصر هذا الموضوع (رمضان والصيام) تجدونه في هذا الرابط بعنوان: مختصر موضوع حقيقة رمضان والصيام في القرءان الكريم

 

والسلام عليكم

16 Mar 19, 2016