حقيقة لسان (لغة) القرءان الكريم ​(الجزء الأولّ)

 

حقيقة لسان (لغة) القرءان الكريم (الجزء الأول)

 

هل لسان القرءان الكريم عربي أم أرامي أم سرياني (أعجمي) أم ماذا سيقولون بعد؟
 

السلام عليكم إخوتي وأخواتي الكرام.

(١): هناك كثير من أعداء الله عز وجل وأعداء القرءان يقولون بأنَّ الأحرف الأبجدية الألم وألر وطسم وكهيعص... هي أحرف أبجدية آرامية أو سريانية،  وإنَّ قولهم هذا يعني أنّ لغة القرءان الكريم غير عربية، لأنّ المنطق يقول بأنَّ الكلمات تتألف من أحرفها الأبجدية، فإذا كانت تلك الأحرف آرامية أو سريانية فمن المنطقي أن تكون الكلمات المؤلفة من تلك الأحرف أيضًا آرامية أو سريانية، فيُصبح بالتالي لسان هذا القرءان آرامي أو سريانيّ لا عربي، سبحانه وتعالى عما يصفون.

وأنا أعجب من قولهم هذا الّذي لا ينم إلاّ عن جهلٍ عميق، كيف يكون لسان هذا القرءان آراميًا أو سريانيًا وليس عربيًّا؟
فهل اللغة العربية الّتي نعرفها هي لغة آرامية أو سريانية؟
وهل عندما نكون نقرأ هذا القرءان نكون في الحقيقة نقرأ قرءانًا آراميًّا أو سريانيًا ليس عربيًّا؟

ما هذا الهراء وهذا الجهل الكبير والمستوى المُنحط في الفهم والتفكير والتطاول على الله جل في علاه الّذي هم واقعون فيه إلى أبعد حدود؟  ومن ذا الّذي يُصدِّق قولهم الباطل هذا؟
 

(٢): وهناك أيضًا من يقول بأنَّ الّلسان العربي لا يعني اللغة وليس له أي علاقة بها، لأنَّ كلمة لسان في القرءان تعني الأسلوب والمخاطبة وآلية التفاهم ووسيلة التبيان ولا تعني اللغة، ولكنهم نسوا أمرًا مهمًا جدًا لا غنى لنا عنه، وهو أنَّ اللسان يحتاج إلى لغة لكي يستطيع أن يتكلم ويُخاطب الآخرين، وأنَّ أسلوب المخاطبة وآلية التفاهم ووسيلة التبيان لا تكون إلاَّ بواسطة اللسان أي بواسطة لغة هذا اللسان، أي بواسطة اللغة الّتي يتحدث بها هذا اللسان، لأنَّ اللسان لا يستطيع أن يُخاطب الآخرين أو يُبيِّن لهم أي شيئ من دون لغة اختصه الله تعالى بها.

من قال لهم بأنَّ اللسان هو ليس أداة للمخاطبة وأنه ليس وسيلة للتفاهم والتبيان أو أنكر عليهم ذلك؟
أجل اللسان هو الوسيلة الّتي نستخدمها لمخاطبة الآخرين، ولكن هذه الوسيلة تحتاج إلى لغة.
وأجل اللسان هو أيضًا الأسلوب وآلية التفاهم ووسيلة التبيان، ولكن هذا أيضًا يحتاج إلى لغة، تمامًا كما يحتاج القرءان لتبيانه وتبليغه وقراءتِهِ وتدبره وأخذ علمه إلى لغة.

وإنَّ قولهم الباطل هذا هو ليس دليلاً لنا على أنَّ مفهوم اللسان العربي في القرءان ليس له أي دعوة باللغة، وخاصة حين يقرن الله تعالى اللسان باللغة، في قوله تعالى: "بلسانٍ عربيٍ مبين". أو عندما يقرن تعالى اللسان بصاحب هذا اللسان، في قوله تعالى: "فإنما يسَّرناه بلسانك لعلهم يتذكرون".

ونحن إذا تدبرنا ما جاء به القرءان عن "اللسان" وعن "العربي" نجد وبوضوح تام أنَّ المقصود به هو مخاطبة الناس وتبليغهم رسالة القرءان مع جميع الرسالات السابقة وتبيانها لهم بواسطة محمد (أو الرسُل) بلسان (بلغة) محمد وبلسان (بلغة) القرءان العربية، كقوله تعالى:

"فإنما يسَّرناه بلسانك لعلهم يتذكرون"
أو كقوله: "وما أرسلنا من رسولِ إلاَّ بلسانِ قومه ليُبيِّن لهم..."
أو كقوله: "وهذا كتاب مصدق لسانًا عربيًا..."
أو كقوله: "إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين"
أو كقوله: "ولو جعلناه قرءانا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته أأعجمي وعربي"
أو كقوله: "إنا أنزلناه قرءانا عربيا لعلكم تعقلون"
أو كقوله: "كتاب فصلت آياته قرءانا عربيًا لقوم يعلمون"
أو كقوله: "إنا جعلناه قرءانا عربيا لعلكم تعقلون"
أو كقوله: "وكذلك أوحينا إليك قرءانا عربيًا لتنذر أم القرى ومن حولها...".

ولقد قالوا بأنَّ كلمة عربي أتت من الجذر الّلغوي لكلمة عَرَبَ، وعَرَبَ تعني كملَ وتمَّ وخلا من العيب والنقص، وأنَّ اللسان العربي هو اللسان الكامل والتام والخالي من العيب والنقص. وقالوا بأنَّ كلمة أعجمي هي عكس كلمة عربي وتعني عدم الكمال وعدم التمام ووجود العيب والنقص،  وأنَّ اللسان الأعجمي هو اللسان الغير كامل والغير تام وفيه عيب ونقص. وقالوا أيضًا بأنَّ كلمة أعراب هي من الجذر اللغوي أعرَبَ، وأعرَبَ هي عكس عَرَبَ وتعني عدم الكمال وعدم التمام ووجود العيب والنقص.

ما هذه الفلسفة السفسطائية؟
ومن أين جاءوا بفلسفتهم هذه؟
وما هو دليلهم عليها من القرءان؟

هُم استشهدوا في قولهم هذا عن معنى اللسان العربي والأعجمي بتفسيرهم الشخصي الخاص وفلسفتهم السفسطائية لبعض الآيات من القرءان الموجودة في سورة فصلت والنحل والشعراء ومريم وإبراهيم أو غيرها. لقد أخطأوا خطأً فادحًا في تفسيرهم هذا لتلك الآيات، لأنهم استدلوا عليها من خلال رؤيتهم الشخصية الخاصة لها وليس من خلال ما تحمل فعليًّا من دلالات ومعاني، ولا من خلال بيان تلك الآيات نفسها، وأعطوا بذلك مفهومًا آخر لكثير من آيات القرءان خارج عمّا أراد الله عز وجل أن يُبيِّنه لنا فيها، فخرجوا بذلك عن نطاق حدود النص القرءاني وبيانه، ووقعوا في هذا الخطأ الفادح الكبير الّذي أثّرَ سلبيًّا على مصداقية لسان (لغة) القرءان العربي، ففتحوا بذلك ومن دون أن يدروا الباب على مصراعيه لأعداء القرءان لكي يُقيموا الحجة على الله عز وجل وعلى كتابه العزيز، فيتجرّأوا على الله عز وجل ويقولوا بأنَّ أصل لغة هذا القرءان هي ليست عربية بل آرامية أو سريانية.

ولقد استشهدوا في قولهم عن معنى الأعراب بقول الله تعالى في آية (97) من سورة التوبة:
"الأعراب أشد كفرًا ونفاقًا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله والله عليم حكيم".
ولكنهم نسوا معنى الأعراب في قول الله تعالى عنهم في آيات أخرى من القرءان الكريم كآية (99) من سورة التوبة:
"ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول ألا إنها قربة لهم سيدخلهم الله في رحمته إن الله غفور رحيم".

ونسوا معنى الأعراب في قوله تعالى عنهم أيضًا في آية (120) من سورة التوبة:
"ما كان لأهل المدينة وممن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطئون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلاً إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين".
 

(٣): لقد نسبوا جميع علمهم وظنّهم الخاطئ للقرءان الكريم، بحجة أنَّنا علينا أن نجعل من النص القرءاني معيارًا للغة ولكل شيء، وأنَّ قاموس اللغة هو القرءان الكريم، وأنَّه هو الّذي يُعطينا قواعد اللغة ودلالات الكلمة.

أنا أوافقهم مئة في المئة الرأي فيما قالوه على أنَّ القرءان الكريم هو قاموس اللغة، وأنه هو الّذي يدلنا على معنى الكلمات والآيات، ولكن سؤالي لهم هو: هل طبَّقَوا هم شخصيًّا ما يقولون؟

وهل استدلَّوا فعلاً من القرءان الكريم في قولهم أنَّ كلمة عربي تعني الكمال والتمام والخلو من العيب والنقص، وأنَّ كلمة أعجمي تعني عدم الكمال وعدم التمام ووجود العيب والنقص، وأنَّ كلمة الأعراب تعني أيضًا عدم الكمال وعدم التمام ووجود العيب والنقص؟

وأنا أعجب كثيرًا مِمّا يتحدث عنه كثير من الناس في شأن لسان القرءان ولغته، وليس هدفي أن أنتقد أي أحد من الّذين لا يعلمون، أو من الّذين يُجادلون في آيات الله "بغير عِلمٍ ولا هُدىً ولا كتابِ منير" عن سبق إصرار وترصد ولكن هدفي أن أدافع أولاً عن كتاب الله تعالى الّذي حُرِّف معناه بظن بعض الناس وبأقاويلهم الباطلة، وأن أنفي وألغي هذه التهمة الباطلة المنسوبة إليه وإلى كتابه، وثانيًا أن أُظهِر الحق من الحق نفسه لكثير من الناس الواقعين في هذا الخطأ الفادح والضلالة الكبرى، فأُظهِر لهم المفهوم الحقيقي للسان العربي والأعجمي وفقط من خلال بيان آيات القرءان الكريم، وليس من من خلال بياني أنا شخصِيًّا ولا من خلال رؤيتي الشخصية الخاصة لتلك الآيات البينات.
 

(٤): والآن تعالوا معي إخواني الكرام إلى بيان الله عز وجل، وسوف أبدأ في آية (22) من سورة الروم:

* سورة الروم
وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ ﴿٢٢﴾.

إذا قرأنا هذه الآية من سورة الروم نجد أن الله تعالى يُعرِّفنا فيها على آيات الخلق إبتداءًا بخلق السماوات والأرض وانتهاءً بخلق الألسنة (اختلاف اللغات) والألوان (اختلاف الأمم)، لقد أراد الله عز وجل في تلك الآية أن يُعلمنا أنَّ خلق السماوات والأرض هو آية من آياتِهِ، وأنَّ اختلاف ألواننا هو أيضًا آية من آياتِهِ، وكذلك الأمر بالنسبة لاختلاف ألسنتنا، إذًا فإنَّ آياتِهِ هي ليست فقط آيات جميع ما خلق لنا في السماوات والأرض بجميع أنواعه وأشكاله وألوانه، ولكنها أيضًا اختلاف ألسنتنا وألواننا، هنا نجد وبكل وضوح أنّ اختلاف ألواننا هو اختلاف الأجناس البشرية (الأبيض والأسود والأحمر والأصفر إلخ...)، وبالتالي اختلاف الأقوام والأمم، وهذا يدلنا على أنَّ اختلاف الألسنة هو اختلاف اللغات بين تلك الأقوام والأمم.

لقد أخبرنا الله تعالى من خلال هذه الآية الكريمة بأنّ اختلاف الألسنة هو آية من آياته ولقد استخدم تعالى صيغة الجمع بقولِهِ تعالى: "اختلاف ألسنتكم"، وهذا يدلنا على أنَّ هناك ألسنة كثيرة مُختلفة، ويدلنا أيضًا على أنَّهُ هو سُبحانه وتعالى خالق، أي جاعِل وواضع بعلمه جميع تلك الألسنة المُختلفة، مِمّا يؤكد بل يُثبت لنا أنَّ اختلاف الألسنة هو اختلاف اللغات بين الأقوام والأمم.

وإذا كان اختلاف الألسنة كما يقول البعض هو اختلاف الأساليب والمخاطبة وآلية التفاهم ووسيلة التبيان ولا يعني اختلاف اللغات، فهذا يعني أنَّه ليس فقط اللسان العربي هو آية من آيات الله، بل اللسان الأعجمي هو أيضًا آية من آيات الله، وإذا سلّمنا بأنَّ اللسان العربي هو الأسلوبٌ الكامل والتام والخالي من العيب والنقص وأنَّه آية من آيات الله خلقه تعالى وأوجده فينا وأعطانا إيّاه، فهل نستطيع أن نُسلِّم بأنَّ الّلسان الأعجمي الّذي هو الأسلوب الغير كامل والغير تام ويوجد فيه عيب ونقص هو أيضًا آية من آيات الله خلقه تعالى فينا وأعطانا إيّاه؟

بمعنىً أوضح، هل الله سُبحانه وتعالى عمّا يصِفون هو المسؤول عن هذا الأسلوب البشري الغير كامل والغير تام، وهو السبب في وجود هذا العيب والنقص فيه؟

من منطلق بيان آية (٢٢) من سورة الروم أؤكد لكم بأنَّ جميع اللغات كاللغة العربية والآرامية والسريانية وغيرها هي آية من آيات الله، وبما أنَّ الله عز وجل أخبرنا بأنه أنزَل هذا القرءان "بلسانٍ عربيٍّ مبين"، تُصبح بذلك لغة هذا القرءان هي لغة عربية بحتة وليست آرامية أو سريانية أو غيرها، تعالى الله عما يصفون.
 

(٥): إنَّ اللغة العربية هي آية من آيات الله، وهي تتألَّف من أحرف أبجدية كحرف الألف (أ) وحرف اللام (ل) وحرف الرّاء (ر) وحرف الميم (م) وحرف الكاف (ك) إلى آخره، ولذلك فإنَّ كل حرف يؤلِّف تلك اللغة هو آية من آيات الله، ونحن إذا جمعنا تلك الأحرف مع بعضها كحرف الألف وحرف اللام وحرف الميم نستطيع أن نُكوِّن من تلك الحروف كلمة يُمكن أن تُصبح تلك الكلمة "ألم" أو "طسم"، وإذا جمعنا تلك الأحرف مع بعضها بالطريقة الصحيحة تُصبح الكلمة لها معنى، وإذا جمعنا تلك الكلمات مع بعضها بتناسُق صحيح فسوف يكون لدينا جُملة (آية) لها معنى، وإذا جمعنا تلك الجُمَل مع بعضها بالطريقة الصحيحة فسوف يكون لدينا جُمَل (آيات وسُوَرْ)، وإذا جمعنا جميع تلك الآيات مع بعضها بتناسُق وانتظام يُصبِح لدينا كتاب مُحكم المعنى (القرءان الكريم).
 

(٦): إنَّ هذا ما أراد الله عز وجل أن يبيِّنه لنا، لقد أرادنا أن ننتبه إلى أنَّ لغة القرءان هي لُغة عربية صُنِعت بواسطة حروفها، مثلاً كحرف الألف وحرف اللام وحرف الميم وحرف الراء وكغيرها من الحروف، لذلك فإنَّ كل كلمة وكل آية وكل سورة وردت في القرءان هي مؤلَّفة من تلك الحروف، ولولا تلك الحروف لا وجود لكلمات تعطينا معاني وعبر وأمثال وحِكم، ولولا تلك الحروف فلا وجود لكتاب القرءان.

وبما أنَّ تلك الحروف هي أحرف عربية لُغويًا وهي أساس تكوين لغة القرءان، إذًا يُصبح هذا القرءان أيضًا عربيًّا بلُغتِهِ شاء من شاء وأبى من أبى،  من أجل ذلك وضع الله عز وجل لنا تلك الأحرف كآية من آيات القرءان لكي يجعلنا ننتبه إلى كل كلمة صغيرة وكبيرة وردت فيه ويُذكِّرنا أنَّها لُغويًّا عربية الأصل، فنتوقَّف عند كل كلمة من كلمات القرءان بهدف تدبُّرها.

إذًا فإنَّ الهدف من وجود تلك الأحرُف الأبجدية العربية كأسماء سُور وكآيات في بداية السُور، هو أن يدلنا على أنَّ القرءان الكريم هو قرءان عربي ولا يُفهم أو يُبيَّن إلاَّ من خلال لُغتِهِ العربيِّة الّتي بيَّنها الله عز وجل وفسَّرها لنا في القرءان من خلال لغة القرءان نفسه، ولذلك علينا الوقوف عند كل كلمة في القرءان لكي نتدبر معناها، وعلينا أن نجمع جميع تلك الكلمات ومعانيها لكي نستطيع أن نفهم معاني الآيات، وعلينا أن نجمع جميع تلك الآيات ومعانيها لكي نستطيع أن نفهم القرءان.

ولو كانت أحرف هذا القرءان الأبجدية هي أحرف آرامية أو سريانية كما يقول أعداء القرءان، لأصبح هذا القرءان آراميًّا أو سريانيًّا، ولو كان كذلك، لكان الله تعالى أخبرنا في آية (195) من سورة الشعراء أنه أنزله بلسانٍ آرامِيٍّ أو سريانيٍّ مبين، بدلاً من أن يُخبرنا أنّهُ أنزله "بلِسانٍ عربِّيٌ مبين".
 

(٧): إن وجود تلك الأحرف الأبجدية في القرءان الكريم، ليس فقط من أجل إعطائنا العبرة على أن الله عز وجل هو الّذي يعلمنا اللغات وبالتالي القرءان، ولكن لكي لا يُنْسَبُ القرءان في حال تُرْجِمَ إلى لغة أخرى، إلى تلك اللغة الّتي تُرْجِم إليها، لأن تلك الأحرف الأبجدية هي أحرف عربية ومن المستحيل أن تُتَرْجَم أو تُنْسَب إلى أحرف أبجدية بلغة أعجمية غير عربية، مِمّا يُعطينا الدليل على أنَّ هذا القرءان هو أُمُّ الكتاب وأنَّ لغَته العربية هي اللغة الأم أي اللغة الأصل، ومِمّا يُثبت بل يؤكد لنا أنَّ هذا القرءان هو النسخة الأصلية الإلاهية ولا يُمكن أن يُترجم إلى لغات أخرى، فلا يأتي مثلاً أحدهم ويقول أنَّ أصل هذا القرءان هو فارسي أو يوناني أو عبري أو لاتيني، أي أعجمي.

فلو لم تكن تلك الأحرف الأبجدية قد أتت في القرءان بصفة آيات في بداية السُور وبصفة أسماء لبعض السُّور، لكان زُوِّرَ القرءان وضاعت النسخة الأصلية في حال تُرجم إلى لُغات أخرى، فيُصبح بذلك القرءان الكريم قرءانًا غير إلآهيّ، ويُصبح قرءانًا ناقصًا وغير مُحكم، وبالتالي غير مُفصَّل، وبالتالي فيه عِوج وتناقضات، تمامًا كالقرائين المُختلفة المُترجمة الموجودة الآن في زمننا في جميع أنحاء العالم بجميع لغات العالم، وبالتالي يصعُب بيانَهُ بتشابه وإحكام وتفصيل آياتِهِ، فيُصبح بذلك قرءانًا مُحرَّفًا تمامًا ككِتابَيْ العهد القديم والعهد الجديد باختلافِ ترجمتها ونسخاتها.
 

(٨): إذًا فإنَّ وجود "ألم" و"ألر" و"كهيعص" وغيرها بصفةْ آيات في القرءان الكريم، هو أكبر دليل على أن هذا القرءان هو النسخة الأصلية وأنَّهُ قد أُنْزِل بعلم الله وباللغة العربية، تأكيدًا من الله عزَّ وجل وتنبيهًا لنا على أن "هذا القرءان" هو قرءانٌ عربيٌ لُغويًا في أصلِهِ، وهذا يُعطيه صفة الكمال ولا يستطيع الباطل أن يأتي من بين يديهِ ولا من خلفِهِ، وعلينا استعمال المفهوم اللغوي العربي القرءاني لاستطاعة فهمه وتدبر آياته، وليس مفاهيم الّلغات الأعجمية الغير عربية، لأنَّ اللغة الأصلية (الأم) الّتي نزل بها القرءان هي اللغة العربية، وهي لُغة الوحي، ولذلك قال الله عز وجل في سورة فصلت:

* سُوۡرَةُ فُصّلَت
إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِٱلذِّكۡرِ لَمَّا جَآءَهُمۡ‌ وَإِنَّهۥ لَكِتَـٰبٌ عَزِيزٌ (٤١) لَّا يَأۡتِيهِ ٱلۡبَـٰطِلُ مِنۢ بَيۡنِ يَدَيۡهِ وَلَا مِنۡ خَلۡفِهِ ۦ‌تَنزِيلٌ مِّنۡ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (٤٢) مَّا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدۡ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبۡلِكَ‌ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغۡفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ (٤٣) وَلَوۡ جَعَلۡنَـٰهُ قُرۡءَانًا أَعۡجَمِيًّا لَّقَالُواْ لَوۡلَا فُصِّلَتۡ ءَايَـٰتُهُ ءَا۠عۡجَمِىٌّ وَعَرَبِىٌّ قُلۡ هُوَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ۬ وَٱلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ فِىٓ ءَاذَانِهِمۡ وَقۡرٌ وَهُوَ عَلَيۡهِمۡ عَمًى‌ أُوْلَـٰٓٮِٕكَ يُنَادَوۡنَ مِن مَّكَانِۭ بَعِيدٍ (٤٤) وَلَقَدۡ ءَاتَيۡنَا مُوسَى ٱلۡكِتَـٰبَ فَٱخۡتُلِفَ فِيهِ‌ وَلَوۡلَا ڪَلِمَةٌ سَبَقَتۡ مِن رَّبِّكَ لَقُضِىَ بَيۡنَهُمۡ‌ وإِنَّهُمۡ لَفِى شَكٍّ مِّنۡهُ مُرِيبٍ (٤٥).

هذه الآيات البيِّنات من سورة فُصِّلَت تدلنا على أنَّ الله عز وجل يستطيع لو أراد أن يجعل هذا القرءان أعجميًّا، أي يستطيع لو أراد أن يُنزِّلُهُ على محمد بلغة أعجمية غير اللغة العربية ويُعلِّمُهُ إيّاهُ بالّلغة الأعجمية الّتي أنزله بها. أي يستطيع لو أراد أن يُنزِّل التوراة والإنجيل (الّذين أعاد تنزيلهما وحفظهما في القرءان) بالّلغة الأعجمية أي بلغة موسى أو عيسى عليهما السلام ويحفظهما في القرءان. ولكنَّهُ لم يفعل ذلك لأنَّهُ يعلم تمام العلم (سُبحانه) أنَّهم لن يؤمنوا بهذه التوراة ولا بهذا الإنجيل وبالتالي لن يؤمنوا بالقرءان بحجة أنَّ محمدًا عربي الّلسان لا أعجمي الّلسان، وبالتالي تصبح حجَّتهم أنَّ هذا القرءان أو بالأحرى هذه التوراة أو هذا الإنجيل المذكور في القرءان ناقِص وغير مُفصَّل ومُفتري على كُتُبهم، بحجة أنَّ محمدًا ليس أعجمي الّلِسان لأنَّ أصلهُ عربي ولِسانه عربي.

ولقد أنزل الله عز وجل في السابق كتاب التوراة على موسى بلغتِهِ الأعجمية ومع ذلك حرَّفوه واختلفوا فيه، وبعدها أنزل الإنجيل بلسان عيسى الأعجمي مُصدِّقًا بالتوراة فاختلفوا أيضًا فيهِ، فما بالكم إنْ يُنزل مرة أخرى كتاب التوراة والإنجيل على محمد وباللغة العربية من خلال لِسان محمد والقرءان العربي!!!

هذه الآيات هي في الحقيقة جواب من الله تعالى للّذين كفروا من أهل الكتاب بسبب عدم تصديقهم بأنَّ التوراة والإنجيل الصحيحين هما القرءان بالّلغة العربية، ولذلك أجابهم الله تعالى من خلال تلك الآيات أنَّهُ يستطيع إذا أراد أن يُنزل عليهم بواسطة محمد التوراة والإنجيل بلغتهما السابقة الأعجمية الّتي أنزلها بها في السابق، ولكنه تعالى لم يفعل ذلك لأنه مهما جاءهُم بآيات وأدلة وإثباتات وبراهين فلن يؤمنوا لهذا القرءان ولا لِلّذي بين يديهِ من توراة وإنجيل وغيرهما من كُتُب الله، بل سوف تكون حُجَّتُهُم أكبر لِعدم إيمانهم، فمحمد لسانُهُ عربي لا أعجمي، إذًا هو ليس أفهم منهم بلغتهم الأعجمية، فلا يستطيع أن يُعلِّمهم القرءان لأنَّه لا يستطيع معرفة لغتهم الأعجمية جيِّدًا، فيُصبح بذلك القرءان غير مُفصَّل بنظرِهِم. هذا ما بيَّنه الله تعالى لنا في آية (44) بقولِهِ فيها:
"وَلَوۡ جَعَلۡنَـٰهُ قُرۡءَانًا أَعۡجَمِيًّا لَّقَالُواْ لَوۡلَا فُصِّلَتۡ ءَايَـٰتُهُ ءَا۠عۡجَمِىٌّ وَعَرَبِىٌّ".
 

(٩): إذًا فلا أحد يستطيع أن يجعل هذا القرءان أعجمي الّلُغة إلاَّ الله، وبالرغم من هذا لم يُرِد الله عز وجل أن يجعله أعجميًّا لِكي لا يتَّهمون القرءان بالنقص حتّى ولو لم يكُن ناقصًا -لأنَّ الكتاب المُنزَّل من الله لا يُمكن ولا بشكلٍ من الأشكال وحاشآه أن يكون ناقصًا مهما كانت لُغتِه- فما بالكم إن يُترجَم هذا القرءان إلى لُغة أُخرى غير الُّلغة الإلاهية الأم الّتي أُنزِلَ بها؟

وإنَّ تلك الآيات البينات هي جواب لِكل إنسان يُشكِّك بالقرءان فيسأل: لماذا أنزل الله هذا القرءان وحفظَهُ (حفظَ التوراة والإنجيل) بالّلغة العربية ولم يُنزلهُ بلغة أخرى كلغة التوراة أو الإنجيل الأعجمية الّتي أُنزِلت في السابق؟

الجواب هو: أنَّهُ لو أنَّ الله تعالى أنزله بلغة التوراة أو بلغة الإنجيل السابقة "لقالوا لولا فُصِّلت ءآياتُهُ، ءأعجمي وعربي"؟، تمامًا كما اتَّهموهُ في آية (٥) من سورة الفرقان وفي آية (١٠٣) من سورة النحل:

* سُوۡرَةُ الفُرقان
وَقَالُوٓاْ أَسَـٰطِيرُ ٱلۡأَوَّلِينَ ٱڪۡتَتَبَهَا فَهِىَ تُمۡلَىٰ عَلَيۡهِ بُڪۡرَةً وَأَصِيلاً (٥).

* سُوۡرَةُ النّحل
وَلَقَدۡ نَعۡلَمُ أَنَّهُمۡ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ ٱلَّذِى يُلۡحِدُونَ إِلَيۡهِ أَعۡجَمِىٌّ وَهَـٰذَا لِسَانٌ عَرَبِىٌّ مُّبِينٌ (١٠٣).

لذلك أنزل الله عز وجل القرءان الكريم بلِسان محمد العربي لا بلسان موسى أو عيسى الأعجمي، لِكَيْ لا يستطيعوا أن يضعوا التهمة على الرسول محمد فيقولوا بأنَّهُ تعلَّم القرءان، أي التوراة والإنجيل من بشرٍ لِسانُهُ أعجمي ويتكلَّم اللغة الأعجمية الّتي كان يتكلم بها موسى أو عيسى، كما أخبرنا تعالى في آية (١٠٣): "وَلَقَدۡ نَعۡلَمُ أَنَّهُمۡ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهۥ بَشَرٌ لِّسَانُ ٱلَّذِى يُلۡحِدُونَ إِلَيۡهِ أَعۡجَمِىٌّ"، ولذلك برّأ الله عز وجل محمدًا من هذه التُهمة الّتي نسبوها إليه وقالوها في حقِّهِ، بجوابِهِ تعالى لهم بقوله: "لِّسَانُ ٱلَّذِى يُلۡحِدُونَ إِلَيۡهِ أَعۡجَمِىٌّ وَهَـٰذَا لِسَانٌ عَرَبِىٌّ مُّبِينٌ"، وهذه الآية هي أكبر إثبات على أنَّهُ لا بشر ولا أحد قد علَّمَ الرسول محمد هذا القرءان إلاَّ العزيز العليم، جلّ الله في عُلاهُ.

ومهما أراهم الله عز وجل من آيات، ومهما كانت لُغة القرءان، وحتّى لو أُنزِل بلِسان موسى أو عيسى، فلن يؤمنوا بِهِ أنَّهُ من عند الله، وأنَّهُ أُنزِلَ بعِلم الله، وأنَّهُ التوراة والإنجيل وجميع رسالات الله، وأنَّ محمدًا رسول الله أرسلهُ إليهم بِكُتُبِهِم السابقة لأنَّهُم اختلفوا فيها وحرَّفوها عبر الزمن، بدليل قول الله تعالى في آية (٤٥) من سورة فُصِّلَت: "ولقد ءاتينا موسى الكتاب فاختُلِفَ فيه وَلَوۡلَا ڪَلِمَةٌ سَبَقَتۡ مِن رَّبِّكَ لَقُضِىَ بَيۡنَهُمۡ‌ وَإِنَّهُمۡ لَفِى شَكٍّ مِّنۡهُ مُرِيبٍ".

 

(١٠): إن وجود تلك الأحرف الأبجدية في القرءان الكريم يثبت لنا ويُعطينا الدليل على أنَّ التوراة والإنجيل وجميع كتب الله الّتي أنزلها الله عز وجل في السابق والّتي حُرِّفت عبر الزمن، قد أعاد تعالى تنزيلها وحَفظها وجمعها مرَّةً أخرى في هذا القرءان وباللغة العربية، مِمّا يُثبت لنا أيضًا أنَّ النسخة الأصلية للتوراة وللإنجيل ولجميع رسالات الله موجودة ومحفوظة في أم الكتاب (أي في القرءان) باللغة العربية.٫إذًا فالله تعالى لم يحفظ فقط رسالة محمد عليه السلام من التحريف بوضعه الأحرف الأبجدية العربية (الّتي من المُستحيل أن تُترجم إلى لغة أخرى) كآيات في القرءان الكريم، ولكنه حفظ أيضًا (بوضعِهِ لتلك الأحرف الأبجدية العربية وإستحالة ترجمتها إلى لغات أخرى) جميع رسالاتِهِ الّتي أنزلها على جميع أنبيآءِهِ ورُسُلِهِ في السابق. من أجل ذلك وضع الله عز وجل لنا تلك الأحرف كآيات في بعض سُور القرءان وليس في جميع سُورِهِ، لأنَّ آيات تلك السُوَرْ الّتي ذُكِرت في بدايتها تلك الأحرف، فيها رسالة خاصة وضعها الله تعالى في آيات تلك السُور، وهذه الرسالة مُوجَّهة من الله عز وجل لنا ترشدنا وتنبهنا وتعرِّفنا من خلالها أنَّ هذا القرءان كتاب جميع الأنبياء والرُسُلْ (مثلاً، كالتوراة والإنجيل) باللغة العربية وليس فقط كتاب محمد (سلامٌ على جميع الأنبياء والمرسلين)، ونحن إذا تدبرنا آيات تلك السُور الّذي ذُكرت فيها تلك الأحرف، نجد أنَّها تتحدَّث عن رسالات الله لجميع الأنبياء والرُسُل السابقين وليس فقط رسالة الله لمحمد، سلامٌ على جميع المُرسلين.

يتبع...

 

55 n