تفسير آية (٣٤) من سورة البقرة: "وَإِذۡ قُلۡنَا لِلۡمَلَـٰٓٮِٕكَةِ ٱسۡجُدُواْ لِأَدَمَ فَسَجَدُوٓاْ إِلَّآ إِبۡلِيسَ أَبَىٰ وَٱسۡتَكۡبَرَ وَكَانَ مِنَ ٱلۡكَـٰفِرِينَ"

 

تفسير آية (٣٤) من سورة البقرة: "وَإِذۡ قُلۡنَا لِلۡمَلَـٰٓٮِٕكَةِ ٱسۡجُدُواْ لِأَدَمَ فَسَجَدُوٓاْ إِلَّآ إِبۡلِيسَ أَبَىٰ وَٱسۡتَكۡبَرَ وَكَانَ مِنَ ٱلۡكَـٰفِرِينَ" 

 

السلام على من سجد لأخيه الإنسان ولم يتكبَّر عليه.

 

(١): * سُوۡرَةُ صٓ
إِذۡ قَالَ رَبُّكَ لِلۡمَلَـٰٓٮِٕكَةِ إِنِّى خَـٰلِقُۢ بَشَرًا مِّن طِينٍ (٧١) فَإِذَا سَوَّيۡتُهُ وَنَفَخۡتُ فِيهِ مِن رُّوحِى فَقَعُواْ لَهُ سَـٰجِدِينَ (٧٢) فَسَجَدَ ٱلۡمَلَـٰٓٮِٕكَةُ ڪُلُّهُمۡ أَجۡمَعُونَ (٧٣) إِلَّآ إِبۡلِيسَ ٱسۡتَكۡبَرَ وَكَانَ مِنَ ٱلۡكَـٰفِرِينَ (٧٤) قَالَ يَـٰٓإِبۡلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسۡجُدَ لِمَا خَلَقۡتُ بِيَدَىَّ‌ أَسۡتَكۡبَرۡتَ أَمۡ كُنتَ مِنَ ٱلۡعَالِينَ (٧٥) قَالَ أَنَا۟ خَيۡرٌ مِّنۡهُ‌ خَلَقۡتَنِى مِن نَّارٍ وَخَلَقۡتَهُ مِن طِينٍ (٧٦).

السجود هو عكس التكبر، والسجود يعني تقبُّل الآخر أو القبول بالآخر، والسجود يعني الإنحناء بخضوع للأمر أو للشخص، والسجود يعني الطاعة.

إنَّ طلب الله عزّ وجلّ من الملآئِكة ومن إبليس (الجن القاسط) السجود لآدم هو في الحقيقة طلب من الله عزّ وجلّ أن يسجد القوي للضعيف ولا يتكبَّر عليه، أي أن يتواضع الأقوى للأضعف، بهدف أن نعيش جميعًا مع بعضنا البعض بسلام ومحبة وعدم تكبرّ وعنصرية وتفرقة واختلافات.

"القوي" هم الملآئِكة في الدرجة الأولى نسبة لقوة خلقهم وقُدرتهم، والأبالسة في الدرجة الثانية، أي الإنسان القوي نسبة لقدرته العقلية الكبيرة، وهذا الإنسان عرَّفهُ الله تعالى لنا في القرءان الكريم وأخبرنا بأنَّهُ زاده بسطةً في العلم أو المال أو الجسم وأنَّهُ ميَّزَهُ وفضَّلَهُ عن باقي الناس.

أمّا "الضعيف" فهو كناية عن آدم، أي الإنسان الّذي تاب الله عليه وأعطاه الفرصة في هذه الأرض لِكي يتوب، أي هو كل إنسان متواضع أو عادي أو متوسِّط الفهم أو فقير العقل أو فقير العِلْم والمعرفة أو فقير المال أو مسكين أو مظلوم أو ضعيف أو مريض، إلخ...، أي هو كل إنسان محتاج، يحتاج إلى مُساعدة الآخرين أو يحتاج إلى مساعدة الّذين هُم أقوى مِنهُ.

 

(٢): والآن سوف أبدأ بتبيان وتفصيل سجود الملآئكة لآدم من خلال أحسن البيان (القرءان الكريم):

إنَّ سجود الملآئِكة لآدم هو في الحقيقة سجود فقط للإنسان الّذي أراد أن يتوب، لأنَّ الملآئكة لا تسجد للإنسان الظالم والفاسد، وإنَّ سجود الملآئِكة للإنسان يُترجم بمساعدة الملآئِكة لكل إنسان يحتاج إلى مساعدة في هذه الأرض، وذلك من خلال قدرتهم وقوَّتهم الّتي خلقهم الله عزّ وجلّ بها، ٫وذلك من خلال طاعتهم لأوامر الله وفعلهم ما يأمرهم بِهِ، فيكون هذا السجود إمّا بتنزيل الكتاب، أو بحماية الضعفاء، أو بتعذيب القرى الظالمة من أجل إزالة الفساد بهدف حماية المظلومين والضعفاء في الأرض، أو بمساعدة الأنبياء والرُسُل في الحروب، أو بغيرها من الأعمال الملآئِكيَّة في السماوات والأرض وما بينهما الّتي تهدف إلى مساعدة الإنسان والّتي لا يعلمها إلاَّ الله جلّ في عُلاه والملآئِكة أنفسهم، ولقد أعطانا الله تعالى عدّة أمثال عن سجود الملآئِكة لآدم في القرءان الكريم، تلك الأمثال تجدونها في الآيات التالية:

* سُوۡرَةُ فَاطِر
ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ فَاطِرِ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلۡأَرۡضِ جَاعِلِ ٱلۡمَلَـٰٓٮِٕكَةِ رُسُلاً أُوْلِىٓ أَجۡنِحَةٍ مَّثۡنَىٰ وَثُلَـٰثَ وَرُبَـٰعَۚ يَزِيدُ فِى ٱلۡخَلۡقِ مَا يَشَآءُۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَىۡءٍ قَدِيرٌ (١).

"أُوْلِىٓ أَجۡنِحَةٍ" = أولِى قوة.

* سُوۡرَةُ الصَّافات
وَٱلصَّـٰٓفَّـٰتِ صَفًّا (١) فَٱلزَّاجِرَاتِ زَجۡرًا (٢) فَٱلتَّـٰلِيَـٰتِ ذِكۡرًا (٣).

* سُوۡرَةُ الصَّافات
وَمَا مِنَّآ إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَّعۡلُومٌ (١٦٤) وَإِنَّا لَنَحۡنُ ٱلصَّآفُّونَ (١٦٥) وَإِنَّا لَنَحۡنُ ٱلۡمُسَبِّحُونَ (١٦٦).

* سُوۡرَةُ مَریَم
وَٱذۡكُرۡ فِى ٱلۡكِتَـٰبِ مَرۡيَمَ إِذِ ٱنتَبَذَتۡ مِنۡ أَهۡلِهَا مَكَانًا شَرۡقِيًّا (١٦) فَٱتَّخَذَتۡ مِن دُونِهِمۡ حِجَابًا فَأَرۡسَلۡنَآ إِلَيۡهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (١٧) قَالَتۡ إِنِّىٓ أَعُوذُ بِٱلرَّحۡمَـٰنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا (١٨) قَالَ إِنَّمَآ أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَـٰمًا زَڪِيًّا (١٩) قَالَتۡ أَنَّىٰ يَكُونُ لِى غُلَـٰمٌ وَلَمۡ يَمۡسَسۡنِى بَشَرٌ وَلَمۡ أَكُ بَغِيًّا (٢٠) قَالَ كَذَالِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَىَّ هَيِّنٌ‌ وَلِنَجۡعَلَهُ ءَايَةً لِّلنَّاسِ وَرَحۡمَةً مِّنَّا‌ وَكَانَ أَمۡرًا مَّقۡضِيًّا (٢١).

* سُوۡرَةُ التّوبَة
إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدۡ نَصَرَهُ ٱللَّهُ إِذۡ أَخۡرَجَهُ ٱلَّذِينَ ڪَفَرُواْ ثَانِىَ ٱثۡنَيۡنِ إِذۡ هُمَا فِى ٱلۡغَارِ إِذۡ يَقُولُ لِصَـٰحِبِهِۦ لَا تَحۡزَنۡ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَا‌ فَأَنزَلَ ٱللَّهُ سَڪِينَتَهُ عَلَيۡهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمۡ تَرَوۡهَا وَجَعَلَ ڪَلِمَةَ ٱلَّذِينَ ڪَفَرُواْ ٱلسُّفۡلَىٰ‌ وَڪَلِمَةُ ٱللَّهِ هِىَ ٱلۡعُلۡيَا‌ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٤٠).

* سُوۡرَةُ غَافر
ٱلَّذِينَ يَحۡمِلُونَ ٱلۡعَرۡشَ وَمَنۡ حَوۡلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمۡدِ رَبِّہِمۡ وَيُؤۡمِنُونَ بِهِۦ وَيَسۡتَغۡفِرُونَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ رَبَّنَا وَسِعۡتَ ڪُلَّ شَىۡءٍ رَّحۡمَةً وَعِلۡمًا فَٱغۡفِرۡ لِلَّذِينَ تَابُواْ وَٱتَّبَعُواْ سَبِيلَكَ وَقِهِمۡ عَذَابَ ٱلۡجَحِيمِ (٧) رَبَّنَا وَأَدۡخِلۡهُمۡ جَنَّـٰتِ عَدۡنٍ ٱلَّتِى وَعَدتَّهُمۡ وَمَن صَلَحَ مِنۡ ءَابَآٮِٕهِمۡ وَأَزۡوَاجِهِمۡ وَذُرِّيَّـٰتِهِمۡۚ إِنَّكَ أَنتَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ (٨) وَقِهِمُ ٱلسَّيِّـَٔاتِۚ وَمَن تَقِ ٱلسَّيِّـَٔاتِ يَوۡمَٮِٕذٍ فَقَدۡ رَحِمۡتَهُ وَذَالِكَ هُوَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ (٩).

وآيات أُخرى كثيرة لا تُعد ولا تُحصى.

من خلال جميع تلك الآيات البيّنات، تجدون وبكل وضوح كيفية سجود الملآئِكة لآدم كما ذكرتُ لكم سابقًا، وتجدون أنَّ سجود الملآئكة هدفه مساعدة الإنسان المؤمن أو التائِب في هذه الأرض، وهذا أكبر دليل على قبول الملآئكة بوجودية خلق الإنسان، وعلى قبولهم لتوبة الإنسان، وعلى تواضعهم أمامه.

 

(٣): إنَّ مُساعدة الملآئكة الأقوياء للناس الضعفاء، والمظلومين، والمؤمنين، والتوّابين في هذه الأرض هو في الحقيقة قبول من الأقوياء بالضعفاء وبحاجتهم إليهم، وتواضعهم وتقبّلهم لهم كمخلوقات ضعيفة تحتاج إليهم، وهو في الحقيقة إنحناء بأن يخضع الأقوياء للضعفاء يترجم بمُساعدتهم لهم، وهو في الحقيقة عدم تكبرّ الأقوياء على الضعفاء يُترجم بإعطائهم المساعدة عند حاجتهم إليهم، وهو في الحقيقة سجود خالص لله وطاعة مُطلقة بكل أمر يأمرهم الله عزّ وجلّ به وحْيًا، وفيه خير للإنسان في هذه الحيواة الدنيا وأيضًا في الآخرة.

ولكن حصل العكس فالإنسان المتكبرّ (إبليس) أعرض عن ذكر الله ورفض أن يسجد لآدم ويأخذ العِبرة من الملائكة، أي رفض أن يتواضع ويساعد أخيه الإنسان المحتاج إلى مساعدة، ورفض بخياره أن يعمل الخير والإصلاح، أي رفض أن يسجد لإنسانيته، لذلك قال أنا خير منه خلقتني من نار (القوّة العقلية والمال والسلطة إلخ... فتفاخر وتكبَّر) وخلقته من طين (الضعف والحاجة إلخ...)، أي صنع الطبقيَّة، والبرهان المُبين الذي لا ريْب فيه نجده في:

* سُوۡرَةُ الزّخرُف
وَنَادَىٰ فِرۡعَوۡنُ فِى قَوۡمِهِۦ قَالَ يَـٰقَوۡمِ أَلَيۡسَ لِى مُلۡكُ مِصۡرَ وَهَـٰذِهِ ٱلۡأَنۡهَـٰرُ تَجۡرِى مِن تَحۡتِىٓ‌ أَفَلَا تُبۡصِرُونَ (٥١) أَمۡ أَنَا۟ خَيۡرٌ مِّنۡ هَـٰذَا ٱلَّذِى هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (٥٢) فَلَوۡلَآ أُلۡقِىَ عَلَيۡهِ أَسۡوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ أَوۡ جَآءَ مَعَهُ ٱلۡمَلَـٰٓٮِٕڪَةُ مُقۡتَرِنِينَ (٥٣).

* سُوۡرَةُ الاٴعرَاف
وَلَقَدۡ خَلَقۡنَـٰڪُمۡ ثُمَّ صَوَّرۡنَـٰكُمۡ ثُمَّ قُلۡنَا لِلۡمَلَـٰٓٮِٕكَةِ ٱسۡجُدُواْ لِأَدَمَ فَسَجَدُوٓاْ إِلَّآ إِبۡلِيسَ لَمۡ يَكُن مِّنَ ٱلسَّـٰجِدِينَ (١١) قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسۡجُدَ إِذۡ أَمَرۡتُكَ‌ قَالَ أَنَا۟ خَيۡرٌ مِّنۡهُ خَلَقۡتَنِى مِن نَّارٍ وَخَلَقۡتَهُ مِن طِينٍ۬ (١٢).

إخوني وأخواتي الأفاضل أرجوا منكم أن تتمعّنوا جيّدًا في آية (٥٢) من سورة الزخرف وآية (١٢) من سورة الأعراف وتربطوها ببعضها وستجدون البرهان المُبين على أنّ فرعرن هو إبليس اللعين.

آية (٥٢) من سورة الزخرف: "أَمۡ أَنَا۟ خَيۡرٌ مِّنۡ هَـٰذَا ٱلَّذِى هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ" = آية (١٢) من سورة الأعراف: "... قَالَ أَنَا۟ خَيۡرٌ مِّنۡهُ خَلَقۡتَنِى مِن نَّارٍ وَخَلَقۡتَهُ مِن طِينٍ".

آية (٥٢) من سورة الزخرف: "... أَمۡ أَنَا۟ خَيۡرٌ مِّنۡ هَـٰذَا..." = آية (١٢) من سورة الأعراف: "... قَالَ أَنَا۟ خَيۡرٌ مِّنۡهُ...".

خلاصة آيات سورة الزخرف والأعراف كالتالي:

إبليس = الإنسان المتكبِّر، والظالم، والفاسد، والمُجرم، إلخ... = أئمَّة الأحبار، والرهبان، والسلف الطالح، وأئمّة مساجد الكفر والإشراك، والعلمانيّين المُلحدين المُتكبِّرين، وكل إنسان أعرض عن ذكر الله جلّ في علاه.

إذًا إنّ إبليس ليس مخلوقًا مُتخفّيًا بزعم أكثر الناس.

والسلام على من اتَّبع الهدى، والعذاب على من كذَّب وتولَّى.

416 Jul 27 2018